يبدأ صوم الفصح بحسب الآباء، بحسب حياة الرهبان، ثلاثة أيام لا يتناولون فيها لا طعام، ولا ماء، يفعلون هذا فقط ليعلنوا لله بأنهم بالفعل قد تركوا كل شيء وتبعوه، وماتوا عن أهوائهم، عن ملذاتهم، عن أطايب الحياة التي يركض ورائها الذين هم أبناء هذا الدهر. ومطبقين كلام الرسول بولس: “لنسلكن سلوكاً لائقاً كما في النهار”، وبه يحرضنا الرسول بولس أن نلبس أسلحة النور. لماذا يريدنا أن نلبس أسلحة النور؟ كلكم تعرفون أنه في المعمودية، نقول متضرعين الى الله: “إجعله جندياً جديداً في مملكة ربنا يسوع المسيح، إجعله خروفاً ناطقاً في رعيتك المقدسة”. وبالتالي الإنسان المؤمن يصبح جندياً في مملكة يسوع المسيح.
نحن نعيّد في هذه الكنيسة للقديس الشهيد ثاوذورس. نعيّد في هذا الشهر، للقديسين الواحد والاربعون من عمورية، وهي مدينة كبيرة والتي فتحها المعتصم، الذي وقتها قال أبو تمام الشاعر: “السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبِاءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنِ الْجدِّ وَاللَّعِبِ”، معروفة الحادثة، هناك واحد واربعون شهيداً طُلب منهم أن يغيّروا إيمانهم بيسوع المسيح، لم يقبلوا. كما كان الجنود يبذلون دماءهم لحماية المدينة المحاصرة، ويقاتلون بكل شجاعة، ومستعدين أن يبذلوا الغالي والرخيص لأجل ثبات الأمن والسلام بحسب معطيات السلطة الزمنية التي كانوا يخدمون. وعندما جاء دورهم أن يخدموا، وأن يجاهدوا، وأن يضحّوا، وأن يقدموا لربنا يسوع المسيح، قدموا، وبكل شجاعة، مع أنهم أسروا، وأتوا بهم الى بغداد، وأبقوهم شهوراً بين الوعيد والترهيب، ما بين الإحسان والعذاب. لا الإحسان أثر فيهم حتى يغيّروا رأيهم، ولا العذاب أثر فيهم. الإحسان والعذاب في خدمة ربنا يسوع المسيح، لا يمكن أن يَفْرُقان عن بعضهما البعض. لأننا لا نخاف ممن يقتل الجسد، بل ممن له أن يلقي الجسد والروح في نار جهنم، يعني الإنسان كله، أي أن نخاف الله.
نعيّد في هذا الشهر للقديسين الأربعين الذين إستشهدوا في سبسطيا، هكذا هم المؤمنون، الإنسان الصائم هو إنسان مضحّي، هو إنسان رجال، هو إنسان لا يخضع للأهواء ، ولعادات إجتماعية، ولما يراه من هنا وهناك، وما يسمعه. الإنسان المؤمن هو إنسان صوّام، إنسان لا يقتدي بالآخرين، لا يقلّد الآخرين، بل يسعى في النهاية أن يكون هو القدوة، وهو المؤثر، وهو صانع الحاضر والمستقبل. والذي يستطيع أن يصحح أيضاً الماضي بأن يحض الناس بحياته وسلوكه على التوبة. الإمتناع عن الطعام والشراب بالنسبة الى الإنسان المؤمن هو أدنى درجات سلم الفضيلة، وهو أول ما يتكلم عنه القديس يوحنا السلّمي، يتكلم عن الإنسان الساعي الى القداسة الذي يبدأ بالتخلص من أشياء هذا العالم وممتلكاته، يضعه بالدرجة الأولى، أو الساعي أن يصعد الى الدرجة الأولى. إذا صام الواحد منا عن السيجارة، يقول أنا أصوم!، إذا كان يعمل عمل سيئاً وفي الصوم لا يعمله، يقول أنا صائم! إنه لم يدخل بالأشياء الطبيعية، إنه لم يدخل على المرحلة الأولى ما بين الدرجة الأولى والأرض، إنه لم يرفع رجله ليصعد، لكن كيف الإنسان الصوّام الذي يعرف أن الصوم هو ليس صوم الطعام، بل هو إشارة إليه، لأن الصوم هو صوم القلب، ليس فقط صوم اللسان. انا لا أتكلم على أحد، انا لا أسرق، لا أختلس. هذا كلام أولاد صغار ، الأولاد الصغار هم الذين يقولون أنا لا أعمل هذه.. يدافعون عن أنفسهم. الإنسان الكبير يتكلم عن نجاحات، يتكلم شهادات، ويكون قد حقق شيئاً في حياته. يتكلم عن أشياء يفتخر بأن يقدمها للناس كفتح جديد. وفي الحياة الروحية لكل شخص هناك فتوحات هامّة يمكنه أن يفتخر بها أمام الله وملائكته. أن يفتخر أمام البشر جميعاً، أن يتكلم، وينصت إليه الناس، ينصت إليه البشر يقولون ويمجدون الله بسبب أعماله. هذا يعني أن الإنسان يتجند ليسوع المسيح. ماذا يعني يتجند؟ أنه جندي جديد ليسوع المسيح ربنا. ماذا يعني جندي جديد؟ الجندي العادي يتعلم فنون القتال ليذهب الى الحرب. إما ان يكون على المدفعية، او على الدبابات، أو بالطيران، او بالصواريخ، إما مشاة او مجوقل الى ما هنالك من أشياء بحسب الجيش الذي في هذا العالم. عليه أن يتدرب عليها جيداً ليستخدمها في المعركة وعند الحاجة لها.
وأيضاً المؤمنون في تجنُدهم ليسوع المسيح، يتسلحون بأسلحة البِر. ماذا يهمني إن كان أحد ما عنده مال الدنيا كلها، ولا يعرف كيف يحافظ على هذه النعمة، ويستخدمها لأجل خلاصه، وخلاص الذين من حوله. يأتي مئة لص ولص، وعندهم مئة طريقة وطريقة لسرقتها فتذهب مهب الريح. أريد أن أسأل كم شخص فقد ماله بسبب القمار، عادة واحدة أفقرت الناس. نفس الشيء في الحياة الروحية، الإنسان الذي يأخذ كل النعم الإلهية بالمعمودية، إذا لم يكن عنده السلاح، وطرق الدفاع الصالحة، القادر على استعمالها على الهجوم على ما يمكن أن ينزع منه هذه النعم التي يعطيه إياها الله له بالمعمودية، التي يعطيها الله له بالمناولة، وقراءة الكتب المقدسة، والكلمة. يأتي اللص عدو البشر، الشرير الشيطان، إبليس، ويخرق له أكياسه، ويبدأ بتفريغها شيئاً فشيئاً بطريقة ذكية، وبدون إنتباه من صاحبها.
طريقتنا نحن، لماذا نريد أن نصوم؟ نحن نمتنع عن الأشياء التي نحبها كثيراً. من قال لك إذا أنت إمتنعت عن الأكل، تزيد أو تنقص. من قال لك إذا لم تمتنع عن الأكل، تزيد أو تنقص. الله لا يحاسب على الطعام والشراب، لأن الرسول بولس يقول لنا: “الجوف للأطعمة، والأطعمة للجوف، والله يبيد هذه وتلك”. وبالتالي، الصوم عن الطعام، هو عبارة عن تمرين الحواس لطاعة الكلمة الإلهية. يمرّن الإنسان ذاته أن يكون قوياً، ليس له سيّد إلا يسوع المسيح. لا الطعام، ولا المال، ولا العادات الإجتماعيّة. سيّده وحده يسوع المسيح. تخيلوا أن هناك مجتمعاً لا يرى في الدنيا له سيّداً، ولا متسلطاً عليه إلا يسوع المسيح. هذا المجتمع يكوِّن مجتمعاً ملكوتياً، كما في السماء، كذلك على الأرض. لأن هل هناك شيء ضد شريعة يسوع المسيح. بولس الرسول يقول: “هذه ليس من ناموس ضدها”، يعني ليس من شريعة ضدها. فأنت عندما تبدأ بالتمرن على الحياة الروحية بالصوم، عليك أن لا تعتبر أنك قد وصلت الى شيء، بل أن تسمع قول ربنا يسوع المسيح يقول لك: “مهما فعلتم فقولوا نحن عبيد بطّالون”. يجب على الإنسان أن يبقى موأَخذاً نفسه، وعاتباً، إذا لم يستطع الوصول الى محبة يسوع المسيح، يعني أن يحب يسوع المسيح، بقدر محبة يسوع المسيح له، على قدر محبة الله له. عند ذلك يستطيع أن يقول أنه يعيش حياة روحية، ويتأكد ذلك له في كشوفات، وإعلانات، ورؤى، وحضور قدسي من عالم السموات كما يحدث مع القديسين. عندئذ يستطيع الإنسان أن يقول: بالحقيقة قد قطعت أشواطاً في هذه الحياة، ولكن ما زلت من العبيد البطّالين. لأنه أين هو من لا نهائية الله في كل خير، لأنه مخلوق على صورته ومثاله. فالصوم، هو صوم كياني، ليس فقط صوم عن الطعام، بل هو صوم كياني، كما يقول الرسول بولس: “لست أنا أحيا، المسيح يحيا فيّا”. وإذا وصلنا أن ندرك هذا أننا بكلامنا، وبتعاملنا مع الناس، ومع طعامنا، ومع عاداتنا، وفي وظائفنا وفي كل مكان، نفكّر ماذا يريد يسوع المسيح الآن. ممتلكاً هذا الفكر، الشعور علينا، يعني بالحقيقة نستطيع أن نقول مع الرسول بولس: “لست أنا أحيا، المسيح يحيا فيّا” يكون المسيح قد حصنني، فيكون المسيح هو الذي أظهره أمام عالم شرير يريد أن يأخذنا الى الهاوية، والى حياة الشر.
جهاد الصوم ككل جهاد روحي يحتاج الى أسلحة البِر، سيف الإيمان، خوذة الروح، درع الصدق والثبات…
أسأل الله أن يعطينا جميعاً أن ندخل في هذا الجهاد ونحن بالفعل موطدين العزم، وقد لبسنا هذه الأسلحة التي أعطانا إياها الله لكي نستخدمها في الإنتصارات والفتوحات الروحية، لكي نبقى رعية واحدة لراع واحد الذي هو مباركنا، وهو مقدسنا يسوع المسيح آمين.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، العدد 13، السنة 15، الأحد 27 آذار 2016