ها نحن نسرِّع الخطى متسابقين مع الزمن نحو الجهاد المبارك جهاد الصوم الأربعيني المقدس. ها نحن نجدُّ السير في إتجاه نهاية الهدف، والواحد منا باقٍ في مكانهه جغرافياً، أو قد يكون مقعداً لا يتحرك، ولكنه يسابق غيره في مشوار عالمي لا ينتهي، إلا إذا صار الإنسان في عالم آخر، وهناك يقال له علانية ما هي نتيجة سعيه، وكم كان جاداً فيه، مع أنه يُعطى للكثيرين على هذه الأرض بعض العلامات الفارقة في حياتهم فيعرفون إجتهادهم وصدقهم.
صار الصوم أيها الإخوة والأبناء الأحباء، في كثير من الأحيان عبئاً على الكثيرين من أبناء المعموديَّة. لأنهم منذ البدء لم يهيّئوا عضلاتهم الروحية لهذا السبَق الروحي. أو لم يداوموا على التمارين اليومية البسيطة في البيت والعائلة، وفي أمكنة أخرى. فبدون وجود الله يصبح الجهاد الروحي جهاداً نفسياً قاسياً، أو يصبح نوعاً من الريجيم يتركه الإنسان ساعة يشاء، الآن أو بعد غد كما يحدث عندما يبدأ الإنسان بالريجيم. فالصوم بدون حضور الله في حياة الشخص يتيحُ للشيطان الرجيم أن يقود للتأفف، والكبرياء إذا صار بغاية من الغايات الشخصية والعالمية. لأن في الصوم ألم، وإنقطاع الإنسان عن أهم ما يحب. فإذا صار بحسب قلب الله، صار سلَّماً يصعِّد عليها الإنسان حياته نحو الغاية المبتغاة والمشتهاة.
هذه هي الحركة في الصوم. فالإنسان كيفما كان، وفي أيِّ مكان يتحرّك شاء أم أبى فهو من الساعين كما يحدث في الألعاب الرياضية طالما أن الإنسان قد دخل السعي فقد صار متسابقاً، ولكن كيف يمكن أن يكون وضعه، هذا يعود الى إستعداداته الجسديّة والنفسيّة، وهكذا بالنسبة للإنسان المعمّد فهو إنسان مطالب بأن يستعد الإستعداد الحسن ليكتب له إكليل الغلبة.
هناك سرعات في الكون لا ندرك مداها، ونظن انها ثابتة. الكرة الأرضية تدور بسرعة هائلة لا ندرك حركتها بالشعور البشري لأننا نجد أنفسنا في ذات المكان. نعم نحن نبقى في ذات المكان، ولكن الأرض في حركة دائمة. هكذا الإنسان فهو حركة متسارعة روحية وكيانية قد يدرك بعضها إذا سمح الله له بإدراكها. وحذاري أن يظن الإنسان المجاهد أنّه على شيء من ذاته لأنه عند ذلك يكون لا شيء.
بالصوم يدرك الإنسان أنَّه قد تحرَّر من حصون شهواته، واستقوى على قواتها، وجعلها أضحوكة له ولغيره. إذ يصبح الإنسان دليلاً على ضعفها، وهشاشة ترابطها.
ولو لم تكن الحركة في الصوم، والتطور الروحي والجسدي، لما صام ربنا يسوع المسيح، ولما صام موسى، ولا إيليا، الرمزين في العهد القديم.
إذا أراد إنسان رياضي أن يسابق في أي نوع من أنواع الرياضات المختلفة، فأول شيء، وقبل التمارين، ومعها يُطلبُ منه أن يصوم، أن يمتنع عن أشياء ليست بقليلة بالنسبة له ولكثيرين، وإذا لم يؤدِّ برنامجه لا يستطيع الدخول في ميدان السبَق، ويرفض مهما تمرَّن وتريَّض، وروّض جسده بالتمارين الشاقة. ينقله الصوم بتحرير العقل الى مرحلة الذهن الصافي، ونقاوة الجسد، ويجدد ذهنه وعقله والمفاهيم عنده تبدأ بالتغيُّر والتحوُّل نحو الشفافية، ويبدأ جسده بالتخلص من الترهلات والأوزان، وما تسببه من أمراض وأتعاب. وبالحقيقة إذا راقب الإنسان مسيرة الصوم الصادقة سيجد أن حركتها مستمرّة ودائمة. ويعطي الله دفعاً للصائم حتى أنه في الأيام التالية للأسبوع الأول أو قبل تمامها لا يعود الإنسان يهتم لا بماذا يأكل، ولا بماذا يلبس لأنه يشعر في داخله أن هذه من إهتمامات طيور السماء وضرورياتها، أما الإنسان فالضروريات عنده أن يهيئ ذاته لعمل إرادة الله، وفي هذه الحال لا عن إضطرار وابتئاس بل عن محبة وشعور بالحرية. فينتقل الإنسان من حالٍ الى حالٍ، لأن الصوم بالحقيقة عبادة كاملة، وأكَّد الآباء على الحركة في العبادة، وأن الإنسان في تطوّرٍ دائم يسابق الأرواح الشريرة حتى لا يؤخذ منه ما وهبه الله له.
الإنسان الصائم يتنقّل بين ميادين الجهاد الروحي والعبادة وتغيُّر أحوالها.
تتساءل هل الصوم في الكنيسة حالة روتينية، إن من يتابع أسابيع الصوم يجد أن الجماعة تسير مسيرة لا هوادة فيها، فمن أسبوع الأرثوذكسية الى أسبوع القديس غريغوريوس بالاماس، الى أسبوع الصليب، وهكذا حتى نصل الى القيامة. وبالفعل الإنسان يتحرّك على هذه المراحل، وكذلك الكنيسة جمعاء. ويشعر المؤمنون بنوعية هذه الأيام حتى أصبحت ذات طابع روحي في ثقافاتهم وفكرهم.
كثيراً ما يحرّكنا الصوم نحو الآخرين، فإما أننا نشعر بآلامهم أو بحاجاتهم. ومن لم يتحرَّك نحو الآخرين بالشعور، والعاطفة، والمشاركة في المعاناة يشبه مياهاً راكدة تفسدها الأيام لأنها لا تتجدّد.
وهنا أيها الإخوة الأحباء، أناديكم بما نادى به القديس اغناطيوس الشهيد الحامل المسيح: أيها الإخوة أذكروا الكنيسة التي في سوريا. وهكذا أيضاً أسأل محبتكم أن أذكروا بأعمالكم وصلواتكم وعطاياكم الكنائس التي في سوريا، لأنها تؤدي جهاداً عظيماً كما لو في أتون النار فما كانوا في يوم من الأيام مقصرين. والعلاقات بينكم وبينهم تشهد على ذلك. الصحبة، القربى، المصاهرة، الجذور.
أسأل الله أن يعطيكم القوّة في الجسد والإرادة ليكون تسارعكم في جهاد الصوم بحسب رضى الله، لأن في ذلك غاية الغايات، ولنصلي لكي يمنح الله أقاليم البطريركية الإنطاكية لبنان، سوريا، العراق، الخليج العربي وسائر المشرق مع ما يخصنا من تركيا، السلام والأمن والحياة الكريمة، وأن يبعد عنها كلَّ شرٍّ وظلامية وغبن. آمين.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، العدد 9، الأحد 28/2/2016