أكتب عن هذا الموضوع بخوف وشفقة: الخوف بسبب عدم أهليتي لإجراء تحليل معقّد، لكن معرفتي بتزايد الاعتماد على هذا الحقل ضمن الكنيسة تثير في نفسي القلق على المؤمنين الأرثوذكسيين. لست أقدم تحليلاً معقداً، بل أشارك ببعض اﻷفكار لتدقيق النظر في الموضوع، وأغلبها اقتباسات. يجب أن أشير في كل اﻷحوال، أن المقصود بالخلاصة النهائية هو كلام عام وليس مطلقاً لكل اﻷشخاص.
يعلّم اﻷرشمندريت صوفروني أن خلال ترتيل الشيروبيكون في القداس اﻹلهي، يصلّي الكاهن “ليس أحدٌ… أهلاً ﻷن يتقدّم إليك أو يدنو منك أو يخدمك يا ملك المجد“، أي ليس أحد مستحقاً أن يقيم القداس اﻹلهي، وعلى المنوال نفسه ما من أحد مستحقاً أن يكون أباً روحياً. من ثمّ يشرح أن سبب هذا هو أن اﻷب الروحي يشارك الله العمل على خلق آلهة غير قابلة للموت. هذا يعني، بالطبع، دعوتنا إلى التألّه. هو، وغيره ممَن كانت لي فرصة التحدث إليهم حول هذا الموضوع، يشددون على حقيقة وجوب أن يكون اﻷب الروحي رجل صلاة. بالرغم من ضرورة اﻹلفة مع تقليد الكنيسة النسكي، وكل ما يخطر ببال اﻹنسان مما قرأه، فوق كل شيء ينبغي أن يسعى اﻷب الروحي للحصول على المعونة اﻹلهية من خلال الصلاة. فاﻵن، اسمحوا لي أن أن أشارك بعض اﻷفكار للاعتبار:
***طرحتُ السؤال التالي على أبٍ من جبل أثوس رغب بأن يبقى مجهولاً (وهو كان طبيباً قبل أن صار راهباً): “لقد التقيت كهنةً في الكنيسة يتّكلون كثيراً على علم النفس الحديث في إرشادهم. أبإمكاننا اللجوء إلى علم النفس؟” فكان جوابه: “تعود تعاليم آباؤنا القديسون إلى القرن الرابع، بينما لا تعود جذور علم النفس إلى ما قبل القرن السادس عشر أو السابع عشر في الغرب غير اﻷرثوذكسي. في علم النفس، يكتشفون بعض اﻷمور المفيدة التي عرفها آباؤنا قبل ما يزيد عن اﻷلف سنة. هناك مشكلة في الغرب: إنهم يؤمنون بأن اﻷفكار والفكر شيء واحد بينما، بحسب تعليم الكنيسة اﻷرثوذكسية، الفكر مختلف عن اﻷفكار، ليسا واحداً بل اثنين، وباستمرار ينبغي تنظيف الفكر من اﻷفكار الخاطئة التي تمرّ فيه“.
يمكن ردّ تطور علم النفس إلى مشاكل في المسيحية الغربية تتعلّق بالخلاص. في الكثلكة، الخلاص هو تقيّد نظامي بالقوانين وممارسة اﻷعمال الحسنة. هذا موجود لكي يأخذ كل إنسان ما يستحقه لخلاص نفسه. في البروتستانتية، الخلاص هو مجرد اعتراف باﻹيمان، حيث يصير اسمك مكتوباً في سفر الحياة. لكن في اﻷرثوذكسية، الخلاص هو منهج العمل لتطهير اﻹنسان الداخلي. في هذا المنهج هناك مراحل للنعمة: اﻷولى هذ التطهّر، الثانية هي الاستنارة والثالثة هي الكمال، وهي نادرة. علينا أن نتوب ونتطهر من أفكارنا الخاطئة وخطايانا، ومن ثمّ يصير الفكر مستنيراً بتلقيه أفكار الله.
تطوّر علم النفس في الغرب ﻷن المسيحيين هناك لا يفهمون الحاجة إلى تطهير اﻷفكار. فاﻷفكار الت تعبر في ذهن اﻹنسان يمكن أن تقوده إلى حالة من المرض العقلي، وهكذا يحاول علم النفس أن يحفظ الفكر مشغولاً بأمور أخرى لكي يتلافى هذه الحالة. لهذا، يمكن أن يكون علماء النفس نافعين أحياناً في حفظ اﻹنسان من التقدّم نحو المرض العقلي، لكن علم النفس يعجز فعلياً عن شفاء النفس.
في اﻹشارة إلى هذا، أورد قولاً ﻷحد المبتدئين في ديري السابق نقلاً عن أحد أقربائه الذي يعمل معالجاً نفسياً وله كتب في هذا المضمار: “نحن علماء النفس مثل اﻹسفنجة. نحن نمتصّ مشاكل الناس لكننا نعجز عن شفائهم“.
عندما كنت شمّاساً، حصل أحد الشبان الذين كانوا يترددون على ديرنا شهادة في علم النفس. سألته: “أهي فكرة جيدة أن أدرس شيئاً من علم النفس من أجل خدمتي كأب روحي؟“، فأجاب: “لا، فأنتَ لن تتعلّم شيئاً جديداً لخدمتك الروحية، بل سوف يساعدك هذا الدرس في مساعدتهم على تصحيح أخطائهم“.
أخبرني أحد الكهنة عن صديق له اقترح عليه قراءة كتاب عن علم النفس، وقال له أنه على الرغم من عدم كون كل ما في الكتاب تعليماً صحيحاً، فهناك بعض النقاط الجيدة. قال الكاهن أن هذا الرجل كان متّسماً بالتبصّر في ما رأى. مع ذلك، لقد لاحظ تغيّراً في تفكير الرجل بعد قراءة اﻷخير للكتاب. لقد صار أكثر ارتياباً وصار يسعى إلى إيجاد براهين وشروحات منظومة ﻷمور اﻹيمان. لقد صار يطلب أن يحلل أسرار اﻹيمان ويعطيها تفسيرات عقلانية فيما هي لا تحتمل هذا. وكنتيجة لذلك تأذّى إيمانه البسيط.
أعرف كاهناً سابقاً كان في وقت ما متحمساً جداً نحو أحد أبناء رعيته الذي كان عالم نفس اختصاصه العلاج الجماعي. لقد أدخل هذه الممارسة إلى رعيته وراح يقرأ كتب علم النفس. لقد كان عنده شيء من النزاع في زواجه وبنتيجة قراءاته قرر أنه بحاجة إلى علاقة حقيقية مع امرأة “طيّبة“. فانتهى متخلياً عن الكهنوت وعن زوجته، وتزوّج ثانيةً.
في محادثة مع اﻷسقف باسيل رودزيانكو، الذي يشغل فصلاً كبيراً من الكتاب الرائج “قديسو كل يوم (Everyday Saints)، قال معلّقاً: “كِلا الكنيسة وعلم النفس توافقان بأن الشعور بالذنب يدفع اﻹنسان إلى الجنون. في الكنيسة نتعاطى مع هذا اﻷمر من خلال التوبة، لكن في علم النفس يجرّبون أو يستعملون طرقاً أخرى“.
أحد اﻷشخاص الذين أعرفهم وقد قضى بعض الوقت في دير التجلي اﻹلهي في آلوود سيتي بنسلفانيا، أخبرني ما يلي: “كنت أعاني بعض الصعوبة مع الغضب، وكان كاهننا اﻷب رومانوس مسافراً. فأخبرت الكاهن الزائر عن جهادي. فقال لي بأني بحاجة للعودة إلى الماضي ﻷشفي الطفل الداخلي. لقد اعتقد الكاهن أن العلاج يساعد. عندما عاد اﻷب رومانوس سألته إن كان عليّ أن أفعل ذلك فأجاب: “لا، وإلا سوف تقدّم أدوات للشياطين“. أظن أن ما أثار همّ اﻷب رومانوس هو عودة اﻷهواء القديمة ونتء الجراح التي ما زالت مفتوحة. لقد تعلّمت من أحد علماء النفس أن هدفهم في هذا هو إزالة عقبات الماضي التي قد تسبب سلوكاً غير طبيعي. هذا يطرح السؤال: “أي مقاربة هي اﻷفضل؟” ما يلي هو بعض الخواطر ويُترَك للقارئ أن يقرر.
إن الكلام عن استرجاع الماضي يذكّر برسالة للأب يوحنا وهو شيخ من القرن العشرين في دير بلعام، حيث يكتب: “المخيّلة والذاكرة هما حاسة داخلية واحدة. في بعض اﻷحيان يضربنا تذكّر بعض اﻷحداث السابقة على رأسنا كالمطرقة. الحاجة في هذا الوقت هي للصلاة المركّزة، والصبر أيضاً. يجب أن تمتلئ ذاكرتنا من قراءة الكتاب المقدّس وكتابات اﻵباء القديسين.بتعبير آخر، لا ينبغي أن يكون الفكر عاطلاً عن العمل. ينبغي استبدال اﻷحداث السابقة بأفكار أخرى، وتدريجياً تُطرَد الذكريات السابقة وتعبر الكآبة. لا يمكن أن يعيش سيدان معاً في قلبٍ واحد“.
أحد المعارف اﻵخرين أخبرني شيئاً على علاقة بهذا: “عندما زرتُ دير القديس يوحنا المعمدان في بريطانيا، كانت لي بركة التحدّث إلى اﻷب صوفروني. لقد كان عندي أسئلة مكتوبة قرأها له رئيس الدير اﻷب كيرللس. عندما جلسنا لنتحدّث سألني اﻷب صوفروني: “أين درستَ علم النفس؟” لقد انذهلت من سماعه يقول هذا، ﻷني كنت قد سبق ودرست علم النفس لمدة فصل في الكلية وقد كان اهتمامي بهذا العلم نهماً. لقد أحسّ بأني أفرِط في تفحص نفسي وتحليلها، فقال: “هناك البعض ممن قاموا بذلك وصاروا قديسين” (أظن أنه كان يفكّر بالقديس يوحنا السلّمي الذي تفحص اﻷهواء في السلم إلى الله وحكى عن عمل الفضيلة بالتفصيل)، ومن ثمّ تابع: “لم تكن هذه الطريق بالنسبة للقديس سلوان، ولا هي طريقنا. الطريق بالنسبة لي هي مباشرة إلى الأمام”.
اسمحوا لي أن أعلق على الكلمات: “الطريق بالنسبة لي هي مباشرة إلى الأمام”. قال القديس سارافيم أن هدف الحياة المسيحية هو اكتساب نعمة الروح القدس. نحن بحاجة ﻷن ندرك أخطاءنا ونعترف بها. وبدلاً من أن نحاول تفحص وإصلاح كل ما يبدو أنه خطأ معنا، علينا أن نتقدّم مباشرة ونطلب اكتساب نعمة الروح القدس. فيما ننمو في نعمة الله تتراخى قبضة اﻷهواء علينا. كل ضعفات نفسنا وأمراضها يصير حملها أيسر. كلمات الشيخ يوحنا البلعامي تنطبق هنا إذا استبدلنا كلمة“ذاكرة” بـ “نفس” و“كآبة” بـ “أهواء“…
“يجب أن تمتلئ ذاكرتنا (أو نفسنا) من قراءة الكتاب المقدس وكتابات اﻵباء القديسين. بتعبير آخر، لا ينبغي أن يكون الفكر عاطلاً عن العمل. ينبغي استبدال اﻷحداث السابقة بأفكار أخرى، وتدريجياً تُطرَد الذكريات السابقة وتعبر الكآبة (أو اﻷهواء).لا يمكن أن يعيش سيدان معاً في قلبٍ واحد“.
إن مقاربة علم النفس مختلفة. يعلّق أحد اﻵباء الرهبان الذين درسوا في معهد القديس تيخن قائلاً: “علم النفس هو شكل علماني من الديانة الشرقية. يحاول علماء النفس سحب كل اﻷجزاء في المكان الصحيح“. حتّى أنهم قد يظهرون وكأنهم يكمّلون ما هو على صورة الله في النفس. لكن اﻷب صوفروني يعلّق على الذين يختبرون حالة الكمال في الديانة الشرقية بأن“إله الكلّ ليس في هذا“.
في الخلاصة، أختم بملاحظة للأرشمندريت صوفروني: “علم النفس ليس نافعاً للذين في الكنيسة. اﻷب الروحي يساعد الذين يأتون إليه ﻷنّه مرّ بجهادات مماثلة وتعلّم من معاناته“.
رئيس الدير غريغوريوس (زايانس)
نقلها إلى العربية اﻷب أنطوان ملكي
www.orthodoxlegacy.org