يتساءل الناس، في أوقات الأزمات الاجتماعية، عن عمل الكنيسة والتزامها العمل من أجل المجتمع، وخاصة من أجل الذين يعانون. مع ذلك، هم يتجاهلون أن الكنيسة، بحكم طبيعتها ووجودها، تحمل اهتماماً ثابتاً بالناس، وتقدم نفسها ضحية على مذبح المحبة. والمقصود من الأفكار التالية هو إظهار أن الكنيسة ينبغي ألا تنتظر تشجيع الناس للقيام بعملها الخيريّ.
- العمل الخيري والعمل الاجتماعي
من واجب الدولة ذات الحكم الجيد أن تهتمّ بالاحتياجات المالية للناس، وبالحد من الفجوة القائمة بين مَن معهم ومن ليس معهم. هذا التزام أساسي من جهة الدولة تقتضيه العدالة. فمن غير الممكن أن يسود عدم المساواة في المجتمع والناس. فأغلب الناس يرغبون في العمل ولا يسعدون بالبطالة والحرمان من الضروريات. الرعاية الاجتماعية لازِمة للأشخاص العاجزين عن العمل، ولكن ليس لأولئك الذين يستطيعون العمل ولا يريدونه.
من جهة أخرى، لا ينبغي أن يكون اهتمام المجتمع بالفقراء وقفاً على تعاطف الناس، بل يجب أن تسود العدالة. الناس بحاجة الى المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص في العمل والبقاء على قيد الحياة الاجتماعية. ضمن هذا الإطار يجب أن تكون الرعاية الاجتماعية المتكاملة. لكن عمل الكنيسة في البشر لا يتوقّف عند هذا المحتوى الاجتماعي للرعاية، بل يمتد إلى مستوى عمل المحبة. هناك فرق بين العمل الاجتماعي والخيري. الأول (الاجتماعي) يهدف إلى تلبية بعض الاحتياجات المادية والجسدية للبشر، في حين أن الثاني (عمل الخير أو المحبة) يمتد إلى الإنسان الذي يتكوّن كله من روح وجسد. عمل المحبة ليس مجرّد تقديم المساعدة والملابس الجاهزة، بل هو حب العطاء والحنان والمحبة والتضحية الشخصية والخير لإعطاء الأمل والتفاؤل في الحياة وإعطائها معنى مرتبط بالمسيح.
- الأنانية، الإحسان ومحبة الله
لا ينتمي عمل الخير في الكنيسة إلى الفكر الاجتماعي، ولكنّه تقليد لمحبة الله للناس، وتعبير عن كامل حياة الكنيسة. وهذا يعني أن أولئك الذين يدركون محبة الله للانسان، ويفهمون التجسّد والصليب، لا يمكن ألاّ يتأثّروا بالمأساة التي يعيشها كل فرد، ولا يمكن أن لا يقوموا بشيء من وهب الذات الذي قام به المسيح.
إن أساس الحياة الكنسية هو الإفخارستيا المقدسة، فهي سرّ محبة الله للإنسان وفيها يعبّر الإنسان عن حبه لله. عندما يمارس الإنسان العبادة يمكنه أن يشعر بسر التقدمة التي أخلى فيها المسيح ذاته، ويتعلّم المناسبة التي يوفّرها الفداء. لهذا، الأخلاقيات الإفخارستية هي أسلوب حياة يقوم على العطاء للآخرين. فالعلاقة والشركة مع الإخوة هي في صلب محبة الله للإنسان.
لكي يكون الإنسان قادراً على المحبة والعطاء لله وللإخوة يجب أن يكون متحرراً من الأنانية. توسّع القديس مكسيموس المعترف في وصف أن الأنانية هي أمّ كل الأهواء، ويمكننا القول أن الأنانية هي جذر كل الشرور التي تعاني منها المجتمعات الحديثة. إنها أعظم الأهواء التي تسود اليوم في مجتمعاتنا، وتأتي من بعدها كلّ الشرور: “تسكن الأنانية في هوى الجسد”. إن المحبة غير العقلانية للجسم والرغبة في تلبية كل رغباته هي هوى الأنانية. الأنانية هي أم الخطايا، كالشراهة والبخل والغرور والكراهية للآخرين. الى هذا، يعلّم القديس مكسيموس أنّ الكبرياء متى ارتبطت بشكل وثيق بالأنانية تؤدّي إلى كراهية البشر، أمّا عند القضاء على الأنانية فتقود نحو محبة الله وعمل الخير.
على الرغم من أن كل مجتمع منظم ينشئ مؤسسات لتحقيق التوازن بين الظواهر الاجتماعية، ولعدم السماح بأن يصل الأشرار إلى الثراء أو الفقراء إلى الجوع، إلا إن المجتمع الحديث لا يعاني من نقص في النظم والمؤسسات ولا يعاني من قلّة في الأفكار الجيدة والنظريات، إنّما يعاني من أفراد يحبون أنفسهم ويستغلون كل الظروف لإرضاء حب الذات.
تهتمّ الكنيسة في مجمل لاهوت الرعاية بعلاج الإنسان من الأنانية، وهكذا يكتسب الإنسان الورَع والصلاح ومحبّة الله، لا لأن قوانين الدولة تستدعي ذلك ولا لأنّ المجتمع يحتاج إلى الصلاح بقوّة، بل لأنه يشعر بأنّها ثمرة محبة الله والناس.
من ضمن هذا المنظور، ينبغي أن تُفهَم الأعمال الخيرية التي تبذلها الكنيسة، وهذا شيء عظيم حقاً، لأن الكنيسة هي أكبر المؤسسات الخيرية في أغلب البلدان. والأهم من ذلك، أنّ الكهنة، على أساس لاهوتي، يحرّكون “جيشاً سلميّاً” من المتطوعين الذين يقدمون أنفسهم ومواهبهم وإلهامهم للعمل الخيري في الكنيسة. كل الذين يقومون بالأعمال الخيرية في فضاء الكنيسة يعملون تطوعياً، حبّاً بالله والانسان، مضحّين بوقتهم ومواهبهم، وأحياناً كثيرة بممتلكاتهم لخدمة الناس المحتاجين.
- حول الإحسان
تكلّم آباء الكنيسة عن فضيلة الإحسان وحثّوا المسيحيين على ممارستها، لأنّها تفيدهم أنفسهم كما تفيد الآخرين. هذا الموقف لا يستند إلى أي إيديولوجيا اجتماعية بل فقط إلى اللاهوت، إلى خبرة محبة الله للناس. المسيح نفسه، كما يظهر من الأناجيل المقدّسة، يحثّ الشعب من خلال التعليم والحياة على مساعدة الفقير والمحتاج. لنتذكّر المثال الشهير عن لعازر والغني، الغني الجاهل، والعظة على الجبل حيث يشير إلى عمل الإحسان وعلى سلطة الأغنياء. أيضاً، لنتذكّر أنّه هو نفسه في مثال آخر امتدح الغريب السامري والمرأة الكنعانية. ولنتذكّر معجزة تكثير الخبزات الخمس. إن حياة المسيح بمجملها كانت حياة إحسان، وعطاء محبة للشعب، ليس فقط لمواطنيه، بل لغير المؤمنين والغرباء أيضاً. هذا الطريق اتّبعه الرسل وآباء الكنيسة. لم يكن الأمر بالنسبة لهم مجرّد تعليم، بل هو المحبة التي ينبغي الالتزام بها كلياً. فهم أنفسهم، كما يظهر خاصةً لدى آباء الكنيسة العظماء، اتّبعوا المثال الحَسَن فوزّعوا أولاً ممتلكاتهم للفقراء ومن ثمّ صاروا رهباناً وكهنة. وهكذا، بالممارسة أظهروا انعتاقهم من الأنانية والطمع.
من أهم الأرضيات التي يُبنى عليها هو عمل للقديس غريغوريوس اللاهوتي “حول الإحسان”. يتكلّم القديس غريغوريوس عن محبة الفقراء ويحثّ المسيحيين على الانخراط في هذه الرياضة الروحية. لا يقوم تعليمه على الشفقة البشرية أو الإنسانية بل على نقطتين لاهوتيتين: الأولى هي أنّ العالم هو خليقة الله. فالله كخالق، له الحقّ الحصري على العالم، لكنّه أعطى البشر الحق باستعمال هذا العالم. فالبشر هم أبناء الله وحقوقهم متساوية في الممتلكات الأبوية. هذا كان في الفردوس قبل السقوط، إذ كان كل شيء مشترَكاً، السماء والأرض والشجر وغيرها. لكن بعد دخول الخطيئة بدأ ادّعاء الملكية. لذا ينبغي توجيه الإنسان الآن، كما يقول القديس، إلى المساواة الأولى بدل الانقسام اللاحق. النقطة الثانية هي اننا عندما نساعد إخوتنا، نقدّم بالواقع محبتنا إلى المسيح نفسه، لذا الإحسان هو عمل لاهوتي وليس مساهمة اجتماعية وحسب. نحن نرى المسيح في كل إخوتنا البشر. في هذه العظة المهمة من عظات القديس غريغوريوس اللاهوتي، بعض العبارات التي تظهِر مدى وقوة الإحسان الذي يُمارِس عِبْر الكنيسة على يد مسيحيين حقيقيين، وسوف نشير إلى البعض منها.
لا يمكننا أن نجمّع الثروات ونحفظها فيما الآخرون يعانون من المرض والعَوَز. تظهر محبة الإخوة عندما يكونون في المعاناة. إن تركّز الخيرات في مكان واحد فيما الآخرون يحتاجون هو انتقاص للمحبة المسيحية على حساب المحبة الإخوة.
من هنا أن مال الكنيسة يجب أن يكون لإطعام الفقير، وكل سعي إلى جمع المال والطعام واللباس يجب أن يكون في هذا الاتجاه، أي الرأفة والخير. لذا يوصي القديس غريغوريوس بألا يعبر الإنسان بأخيه الإنسان من غير اهتمام وألا يشيح بوجهه عنه وكأنه لعنة، لا بل ينبغي أن يكون عمل الإحسان موجهاً لكل إنسان على هامش المجتمع، خاصةً غذا كان الآخرون يبتعدون عنه. ويعطي مثل البرص الذين كانت عائلاتهم تطردهم وتتخلّى عنهم لأن مرضهم كان معدياً. وهو يشجع المؤمن بأن يعطي الطعام والدواء ويداوي الجراح ويهتمّ بمن هو في ضيق، مشدداً على الصبر ومقاربة الحاجة بشجاعة. هذا يشير إلى أن الإحسان متنوّع يمكن ممارسته بالخيرات المادية كما بالتعليم والاهتمام الشخصي. الإحسان ليس كمية من المال محدداً كما لراتب أو منحة لغذاء، فحاجات الإنسان لا تقتصر على الماديات بل هي فكرية وروحية ونفسية أيضاً. لذا يقول القديس “إن لم يكن لديك ما تعطيه للفقير، أعطِه إرادتك، ابكِ من أجله، لأنّ العطف الذي يخرج من النفس هو دواء له في مصيبته”. لذا لا يبرر المرء نفسه بأن ليس لديه ما يعطي لأخيه. هذا العطاء الذي يُعَبَّر عنه بالدموع هو دواء للحزانى لأنه يعكس حالات المحتاجين. وبما أن حاجات الناس تتنوّع، منهم الأرامل والأيتام والغرباء والمضطهَدين والمسافرين، فإن إعطاءهم المحبة وزيارتهم والتخفيف عنهم هو عطاء عند الله وليس في العالم وحسب.
إن تعليم القديس غريغوريوس هو مثال عن الأنثروبولوجيا الأرثوذكسية التي ترى وجه المسيح في وجوه الغرباء والفقراء الذين إذ نساعدهم نساعد المسيح. من هنا يكتسب الإحسان فحوى لاهوتية ولا يبقى عملاً عاطفياً وحسب.
- الجماعة العلاجية
مركز الحياة في الكنيسة هو الصلاة والتعليم. من هنا أن الصلاة والإيمان والإفخارستيا تغذي المسيحيين الذين في الكنيسة. مع هذا، ليست الإفخارستيا حدود الحياة الكنسية بل هذه الحياة تمتد لتلامس مجمل أوجه حياة المسيحيين، وحتّى الحاجات المادية منها. لا يصحّ أن يشارك المؤمن الآخرين بالجسد الإلهي ولا يشاركهم بما هو دون ذلك، أي الخيرات الأرضية. فالمسيحي لا يمكن أن يكون يتيماً لأن أباه هو الله، ولا هو الولد الوحيد لأن لأبيه أولاد كثيرون. لقد أحسّ المسيحيون الأوائل بأن أخوّتهم في المسيح، لذا “كان كل شيء مشتركاً” من الطعام إلى الممتلكات. لتحقيق هذا الهدف عاشوا كجماعة، وقد كانت جماعة علاجية. هذا يظهر من كتاب الأعمال حيث يقول: “كَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا” (32:4). ولهذا يتابع قائلاً: “لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مُحْتَاجًا، لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُول أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ، فَكَانَ يُوزَّعُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَكُونُ لَهُ احْتِيَاجٌ.” (34:4-35). هذه معلومة مهمّة، أن آلاف المسيحيين الذين كانوا في أورشليم لم يكن بينهم فقير ولا هم تحدّثوا عن ملكية خاصة. أهمية هذه المعلومة هي وجوب أن تكون معياراً بالنسبة لنا في هذه الأيام.
ما يزال بعض المسيحيين يعيشون هذه الحياة المشتركة بشكل مختلف. المقصود هنا هو الأديار حيث يتخلّى الرهبان عن ملكياتهم الخاصة ويتذوق الزوار هذه الحياة المشتركة. لكن الكنيسة، بتوزعها إلى أبرشيات ورعايا، ما تزال تحتفظ بهذه الصفة الجماعية التي تحمل بطبيعتها إمكانية أن تكون جماعة علاجية. ففي الرعية المتماسكة يمكن أن يجد الإنسان سداً لكل حاجاته المادية والنفسية والروحية.
نحن في زمان يريد أن يتعامل مع الإنسان على أنه كائن اقتصادي، ولهذا تستمر الأزمة الاقتصادية وتتسع. لكن خبرة الكنيسة تقول غير ذلك، اي أن الإنسان كائن لاهوتي وحاجاته ليست المادة وحسب، بل جوعه وعطشه الحقيقيان هما إلى الله. صحيح أن على الدول مسؤوليات كثيرة نحو شعوبها لكن هذا لا يعفي الإنسان من أن يهتمّ لكل شخص وعائلة وأزمة اجتماعية وأن ينمو في الإحسان والتعاطف مع إخوته وغيرهم من المحتاجين. إن الإنسان الذي يرغب في ان يقلّد المسيح والرسل والآباء، لا بد من أن يكون كريماً، خاصةً إذا كان من الإكليريكيين. والأمر نفسه ينطبق على المؤسسات والجمعيات وعلى رأسها المسماة على اسم الكنيسة أو التابعة لها.
الميتروبوليتإيروثيوسفلاخوس
نقلها إلى العربية بتصرّف الأب أنطوان ملكي
www.orthodoxlegacy.org