اليومَ بدأ الّذي كانَ وهو كائنٌ وسيكونُ، وهو صانعُ اليومَ…
اليومَ، يُعلِّقُ الله الآبُ الأرضَ رافعَها إلى سماءِ السّمواتِ وإلى السّماءِ السّمواتِ، الفردوسِ الّذي كان هو فيه ليبقى فيه ومعه آدمُ وحوّاءُ سكّانُ أورشليمَ العلويّةِ المصلوبةِ على صليبِ الرّبِّ…
اليومَ تتفجَّرُ الينابيعُ الّتي منذ بدءِ الكونِ، لتتنقّى من الخطيئةِ الّتي كانت في سرِّ الحيّةِ الشّيطانِ، ليَغسلَ الآبُ كونَها وكيانَها بالولادةِ الجديّةِ منه هو، فلا يعودُ يجرؤُ أيُّ مخلوقٍ أرضيٍّ أن يستكبرَ على خالقِهِ…
اليومَ تتلعثمُ الحروفُ على شفاهِ الرّضّعِ الّذين ولدتْهم أمّهاتُهم العواقرُ من بطنِ الإلهِ، الصّارخين من دون صوتٍ يُسمعُ ولا بكاءٍ، يطلبون فيه الشّبعَ…
أسرعوا إلينا… اهرعوا… لكم هديةٌ يا أيّها الكائناتُ… ربُّكم خالقُ السّمواتِ والأرضِ وُلِدَ طفلًا، صقِعًا، مقمّطًا، وموضوعًا في مذودِ الحيواناتِ لتأخذوه، فخذوه هديّةَ العمرِ حتّى لا يقتلَهُ فيكم حسدًا شيطانُ الكبرياءِ والصّلفِ وحبِّ المالِ والوجاهةِ والكرامةِ وَ… وَ…وَ… وشيطانُ الأنا الإنسانيّةِالأنانيّةِ…
اليومَ يمدُّ الطّفلُ، مولودُ الوعدِ، يدَهُ ليُقفِلَ فمَ أمِّه الّتي تريدُ أن تكونَ مخلِّصةً معه بالحبِّ المصلوبِ، لتبقى دمعةُ ودماءُ ودموعُ الرّجاءِ ناطقةً: من وسطِ الأتّونِ الّذي سيتفجّرُ وتتأجّجُ النّارُ المنقّيةُ والمطهِّرةُ فيه لتميتَ الإنسانَ العتيقَ فيولدَ من بطنِ مريمَ…
اليومَ يفرزُ الإنسانُ ذاتَهُ عن ذاتِ الإلهِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القدسِ، إذ يعفُّ عن فهمِ روحِ الله الساكنِ حولَهُ وفيه، ليبحثَ عنها خارجَ الموتِ، عن موتِ الأنا الّتي فيه…
اليومَ كلُّ نساءِ الأرضِ يصرْنَ أمّهاتٍ، إن أردنا وقبلْنا أو شاركنا في قولِ “النّعمِ”، ليأتيَ ربُّ الكونِ ويسكنَ في أحشاءِ قلبهنَّ بدءًا، تاليًا، في حشا الكونِ الّذي ما زال الرّبُّ يطهِّرُهُ مع كلِّ نسمةِ صبحٍ ليصيرَ كلُّ ما كان وهو كائنٌ وسيكونُ، آتيًا ومولودًا من قلبِ الله الآبِ وفداءِ الابنِ وحياةِ الرّوحِ القدسِ الممتدِّ إلى أقصى أقاصي الأرضِ!!…
اليومَ الأرضُ تتخلّى وتتجلّى صاعدةً من انغسالِها في بطونِ البحارِ، لتَلْتَمِعَ نجمةَ حياةٍ جديدةٍ متجدِّدةٍ بأرديةِ النّورِ السّاطعِ من نجمةِ الصّبحِ، لتُضيءَ عتماتِ صبحِ الخليقةِ برمّتِها…
اليومَ آدمُ يلتزمُ حوّاءَ، جرحَهُ، ليدخلَها صلفَهُ، فتصيرَ فيه، وسويّةً معه، جرحَ الثّالوثِ القدّوسِ المصلوبِ بالابنِ على عتاقةِ ودونيّةِ واحتيالِ البشريّةِ، ليُصمِتَ الوعدَ… ليُصمتَ البراءةَ… ليُصمِتَ الحبَّ… ليُصمتَ الألوهةَ…
اليومَ يتضّعُ الوعدُ الإلهيُّ والعزّةُ والكِبَرُ للخالقِ، ليتجلّى وهو باقٍ في ما هو عليه، حاملاً ومشاركًا “طاعةَ” الإلهِ الابنِ، لرفعِ مخلوقِ يدَيه وصلبِهِ على الحبِّ، علَّهُ يدركُ أنّ هناكَ محلّاً ومطرحًا ومسندًا لكلِّ الّذين ولدوا وعُمِّدوا على الألمِ وقبلوه عنهم وعن خطايا وجهالاتِ الشّعبِ، ليعرفوا أنّ الكونَ هو آبٌ وابنٌ وروحٌ قدسٌ…
اليومَ يتجرّأُ آدمُ وحوّاءُ، بعد تآخيهِما في المعرفةِ الإلهيّةِ، أن يطلبا من الله الآبِ والابنِ والرّوحِ القدسِ الغفرانَ لأنّهما صارا واحدًا على الصّليبِ وبالألمِ المحيي، ليأتيا بشفاعاتِ “الأمِّ”… والدةِ الإلهِ إلى تبنّي الكونِ الجديدِ الّذي لن يولدا منه وفيه ولن يولدَ هو فيهما، إلاّ على خشبةِ الصّليبِ…
اليومَ، بميلادِ يسوعَ، تنتفي رجولةُ آدمَ المريضةُ واستكبارُهُ حتّى على الإلهِ، ليجلسَ لا عن يمينِهِ ولكن محلَّهُ ليحكمَ لا بالعدلِ ولكن بالقوةِ والسّؤددِ والعنفِ، وتاليًا، تنتفي غوايةُ واحتيالُ الحيّةِ في دنس حوّاءَ، لتصيرَ بكارةَ الحبِّ ورفيقةً، بل خادمَةً، ومن صويحباتِ مريمَ أمِّ الإلهِ، لتلدَ هي أيضًا بروحِ العفّةِ الأولادَ…
اليومَ بميلادِ الطّفلِ السّيّدِ، الرّبِّ يسوعَ المسيحِ تَبطُلُ الأحكامُ والموازينُ والأعرافُ والقوانينُ الّتي وضعَها البشرُ عبرَ التّاريخِ، ليبقى حكمُ “الحبِّ المصلوبِ” وحدَهُ هو البدايةَ والنّهايةَ، الّتي إن لمْ يُدركْها الإنسانُ مُتبنيًّا إيّاها واقعًا كيانيًّا، يفنى مصلوبًا على تفهِهِ وحبِّه للظّهورِ والتّسيّدِ، وخدمةِ الأنظمةِ والحكّامِ والملوكِ والسّلاطينِ وكلِّ من وما زالَ يدّعي أنّه يعرفُ المسيحَ الرّبَّ يسوعَ طفلاً مرذولاً ومرميًّا وجائعًا وعريانًا في كلِّ الّذين يتحكّمون برقابِ البشريّةِ وهم كذّابون، حاملون كذبَ الشّرّيرِ فيهم…
اليومَ يتكشّفُ سرُّ الإثمِ!!… واليومَ، تاليًا، تولدُ براءةُ الطّفولةِ البريئةِ من كلِّ عيبٍ، لكي تحكمَ الأرضَ، قالبةً عروشَ العظماءِ، وتهتُّكَ حجُبِ الكذبةِ الكبرى، أن لا قيامةَ في الموتِ على الصّليبِ… ولا حُبَّ، بل مصالحُ تتضاربُ وأعنافُ نفوسٍ تحتقرُ ما يسمّونَهُ فقرَ الفقراءِ، لطردِهم من أبراجِهم العاجيّةِ، من مالِهم، من علمِهم، من ألمِهم وقتلِهم لهم لأنّهم صاروا عِبْءً على ضميرِهم…
اليومَ يموتُ القتلُ وتفنى المؤامراتُ في وجهِ الطّفلِ ملكِ الكونِ، المرميِّ خارجَ المدينةِ،لأنّه لم يجدْ مكانًا له فيها، وهو مبدعُها وغافرٌ سقوطَها، حتّى اليوم، ليجدِّدَهُ في روحِ قلبِهِ ودموعِ ودماءِ أصفيائِهِ…
اليومَ يلتغي الشّكُّ، لأنّ الحبَّ الإلهيَّ يولدُ ويولدُ ويولدُ من قلوبِ وصمتِ الصّقيعِ الّذي كلَّلتْ فيه الخليقةُ مبدعَها…
اليومَ يلغي الطّفلُ الإلهيُّ كَذِبَ الكذبِ والاحتيالَ والادّعاءَ أنّه بإمكانِ الإنسانِ أن يصيرَ ربًّا بذاتِه، الّذي وحتّى الآن لا يعرفُ أنّه بعيشِهِ السّلطةَ والجاهَ والمالَ وحبَّ الميراثِ الدّنيويِّ، قد هدمَ عروشَ الأباطرةِ والملوكِ والحكّامِ والبطاركةِ وكلِّ السّياسيّين الّذين يتخطّرون بالمظاهرِ والتماعاتِ كلماتِهم وذهبِ أثوابِهم وعظمةِ صمتهم المدّعي، ليخنقوا نعمةَ روحِ الحقِّ، الّذي ليس فيهم…
اليومَ الّذي لم تسعْهُ الأكوانُ والسّمواتُ، يسعُهُ الآبُ بالرّوحِ القدسِ، قاذفَهُ إلى حشا امرأةِ الوعدِ الإلهيِّ مريمَ، امرأةِ الموتِ الإنسانيِّ، لتصيرَ “بنَعَمِها” كما “بنعمِ” ابنِها وربِّها وسيّدِها، حجّةَ الخلاصِ للإنسانيّةِ الجديدةِ “النَّعَمِ”، الّتي لم يهمَّها إلاّ أن تتثبَّتَ من قريبتِها أليصاباتَ أمِّ يوحنّا معمِّدِ المصلوبِ بدءًا، على صلفِ وكذبِ وشيطانيّة الحكّامِ، أنّ هناك حقيقةً واحدةً، وربًّا واحدًا، وحكمًا واحدًا للّذين يحبّون إلهَهم في كلِّ غريبٍ، وفقيرٍ، وعطشانَ وجائعٍ ومنكودِ الحظِّ ومستغلٍّ الله لاسمِهِ، حتّى يحيا هو لا غيرُهُ، على سُدَدِ الحكمِ الأرضيِّ…
اليومَ يدعو الإلهُ الطّفلُ يسوعُ المسيحُ كلَّ سُدّةٍ في حكم كنيستِهِ بدءًا، لحملِ عصا الرّعايةِ الحقِّ فيصلوا بها إلى المذودِ ليركعوا باكين خطاياهم، وإذ يقبِّلون قدمَي الطّفلِ، تلمسُهم نعمةُ البراءةِ، للرجوعِ إلى بطنِ مريمَ، ليولدوا جديدًا متجدِّدين وعبيدًا للنعمةِ الإلهيّةِ، حتّى يستمرَّ السّيّدُ حاكمًا الكونَ على صليبِ الأملِ بالحبِّ لا بالأنانيّةِ.
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
27 كانون الأول 2015