تأسَّسَ قبل القرن السَّابِع. يُسَمِّيهِ القدِّيسُ ثيودوروس الستوديتيّ صوم والدة الإله المقدَّس، ذلك في نهاية القرن الثَّامِن. فيه نصوم عن النَّشاطات الدُّنيويَّة، السَّهَر، المآكِل الدَّسِمَة… لنتفرَّغَ أكثر للصَّلاة والمُطَالَعَة الرُّوحيَّة ونكتَسِبَ فضائلَ السَّيِّدة العذراء مريم والدة الإله. وفضيلتُها الرَّئيسيَّة أنَّها كانت تسمعُ كلمةَ اللهِ وتحفظُهَا في قلبِهَا أي كانت تطيعُهَا في حياتها، كانت “تحت السَّمَع”، كما تشير إلى ذلك حرفيًّا كلمة “طاعة” في اليونانيَّة، أي سَمْعًا وطاعَة. قالت العذراء للملاك المُبشِّر: “هوذا أنا أَمَةُ الرَّبِّ لِيَكُنْ لي حَسَبَ قولِك” (لوقا 1: 38).
هذا ما أشار إليه الرَّبُّ يسوع عندما قال لِذَوِيهِ: “أُمِّي وإخوتي هم الَّذين يَسمعونَ كلمةَ اللهِ ويعمَلُونَ بها” (لوقا 8: 21). تصرَّفَتْ، على مِثَالِ مريم، أُختُ لعازَرَ في جلوسِهَا عند قدمَي يسوع تسمعُ كلامَه، هذا ما نراه في كثيرٍ من الأحيان عند تلاوة الإنجيل، بخاصَّة مع الأولاد الَّذين يركعون أمام الإنجيل عند تلاوته في الكنيسة من قِبَلِ الكاهن.
* * *
غايةُ صومِ السَّيِّدة هو أن نكتسِبَ “الرُّوحَ المريميَّة”، أن تصبحَ نفسُنَا عروسًا للمسيح تَتَبَتَّلُ ليسوعَ كما فَعَلَتِ العذراءُ مريم، نمتنِعُ عن المآكِلِ الدَّسِمَةِ عن الزَّفَرَيْنِ، اللَّحم والجبن، وحتَّى عن الزَّيت والنَّار عند الضَّرورة. نمتنعُ عن الأكاليل لنتفرَّغَ للصَّلاة والمُطَالَعَة الرُّوحيَّة. نكتفي بالاِنشغال اليوميّ بـأمور المهنة والعائلة. كلّ هذا تُوصِيهِ القوانين الكنسيَّة خلال الأصوام الكبيرة.
في صوم السَّيِّدة نُصَلِّي كلّ يوم في الكنيسة صلاة البراكليسي، ومعناها “الاِبتهال”، وتعود إلى القرن الخامس. تَطَوَّرَ شكلُها من قانونٍ شِعْرِيٍّ في القرن التَّاسع واكتَمَلَ مع الطّلبات والتَّراتيل بشكلها النِّهائي في القرن الخامس عشر. جَرَتِ العـادةُ، أيضًا، أن تُقَامَ هذه الصَّلاة على مريضٍ، عند الضَّرورة في البيت أو في المَشْفَى، نرفعها إلى العذراء مريم الشَّفيعة الحارَّة ورجاء المؤمنين “طالِبِينَ الخَلَاص” للمُنْسَقِمِين نفسًا وجسدًا، هي الَّتي وَلَدَتِ الرَّبَّ المُتَحَنِّنَ والمُقْتَدِرَ والَّتي لا تَرْفُضُ مَجَارِي دموعِنَا حتَّى تُبَادِرَ إلى الشَّفَاعَة لدى ربّها وابنها فَتَشفي أمراض نفوسنا وأوجاع أجسادنا، وتنجيّنا من الشَّدائد والأهواء ومن الموت والفساد ومن أضرار العدوِّ الرديئة، أي من الخطيئة.
بعد كلّ هذا الجهاد الصِّيامِيّ الرُّوحِيّ والجسدِيّ يأتي العيد في 15 آب مكلِّلًا أتعابَنَا ويعطينا فرحًا عارِمًا لا يوصَف نراه في كنائس الدُّنيا كلّها، هذا الفرح الّذي اكتنَفَ العذراء مريم نفسها عندما قالَتْ لنسيبتها أليصابات: “تعظِّمُ نفسي الرَّبَّ وتبتهجُ روحي بالله مخلِّصي، لأنَّهُ نظرَ إلى تواضعِ أمتِهِ، فها منذ الآن تطوِّبُنِي جميعُ الأجيال” (لوقا 1: 16).
أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما
عن “الكرمة”، العدد 31، الأحد 2 آب 2015