تركّز الكنيسة في سبت النور انتباهنا على قبر السيّد. إن هذا اليوم هو أكثر أيام السنة الطقسية تعقيداً . لأنه يتنازعه في آن حزن الآلام وفرح القيامة. ولقد طغى الاحتفال بعيد الفصح – الذي يقدَّم بازدياد – على معظم يوم سبت النور. وبإمكاننا، في هذا اليوم، تمييز قسمين متتاليين: الأول يكمِّل الصلة بزمن الآلام، والثاني يتصل مباشرة بالفصح.
كما سبق وأشرنا، فإن خدمة (دفن المسيح)، المقامة بعد ظهر يوم الجمعة، (تقتحم) سبت النور. لكن هذا اليوم يبتدئ فعلاً بصلاة السَحَر التي تقام عادة إمّا مساء يوم الجمعة أو يوم السبت باكراً جداً (وتدعى خدمة (جناز المسيح)). نرتل، بعد الانتهاء من مزامير السَحَر وبعض الصلوات الأخرى، (قانوناً) مؤلفاً من تسع أوديات يلي ذلك تطواف ينتهي إلى وسط الكنيسة حول النعش الذي يحمل الأبيطافيون.
نرتل عندئذ (تقاريظ) الجناز، وهي مجموعة من الأبيات مقسمة إلى ثلاثة أجزاء تفصل بينها الطلبا تبعد ذلك يرشّ المتقدِّم النعش والمصلِّين بماء الورد ثم ترتل تبريكات القيامة، وتراتيل أخرى. وبعد المجدلة الكبرى، يصير تطواف كبير بالأبيطافيون يُعاد في آخره مع كتاب الأناجيل إلى الهيكل، حيث يوضعا على المذبح طيلة أسبوع الفصح (أسبوع التجديدات). ثم تقرأ نبوءة حزقيال (1:37- 14) التي تصف رؤيته للعظام المجففة العائدة إليها الحياة واللابسة مجدداً لحماً بفعل الروح. تشير هذه العظام العائدة إليها الحياة إلى الشعب الإسرائيلي، إلى المسيح القائم من بين الأموات (مع أن جسده لم يعرف الفساد)، وإلى الخاطئ الذي نال الغفران في آن. نقرأ بعد ذلك قطعتين من رسائل بولس (1كور6:5- 18 وغلا 13:3- 14) مندمجين في تلاوة واحدة، أهم ما فيها: (فإنه قد ذُبح فصحنا المسيح لأجلنا. فلنعيّد إذاً لا بالخمير العتيق ولا بالخمير السوء والخبث، بل بفطير الخلاص والحق ). تتبع هذه الرسالة تلاوة لآخر الأناجيل الاثني عشر التي تليت يوم الخميس العظيم (متى62:27- 66)، حيث نسمع أن الكهنة طلبوا من بيلاطس أن يُصار إلى ضبط القبر بالحراس، وقد تم ذلك بالفعل. وتنتهي صلاة السَحَر بطلبة وبالصلوات الختاميّة العاديّة.
بهذا ينتهي شطر خدمة سبت النور المتعلّق بآلام المسيح. وقبل الانتقال إلى الشطر الثاني التابع لزمن الفصح، لنتوقف قليلاً أمام قبر السيّد. سيساعدنا مقطعان من الكتاب المقدس على تفهم بشرى سبت النور. أولاً نص من الإنجيلي لوقا البشير (55:23- 56)، حيث نجد: (وكانت النسوة اللواتي تبعن يسوع من الجليل يرافقن يوسف. فرأين القبر وكيف وُضع فيه جسد يسوع. ثم رجعن وهيأن طيباً وحنوطاً، واسترحن في السبت حسب الشريعة…). يوجد، في حياة كل تلميذ، مراحل يبدو فيها وكأن المعلّم قد ابتعد وظل على بعده عنا. هذا ينطبق بمعنى ما على القبر. تعلّمنا النسوة كيف يجب أن نتصرّف في مثل هذه الأوقات. لقد رأين القبر، وعرفن أين وُضع يسوع. وكذلك يجب أن نفعل نحن حتى إذا بدا لنا أن يسوع لم يعد يستجيب لطلباتنا. حتى لو أصبح غير مرئي، فلا يجب أن نشك بحضوره. يجب أن نبقي نظرنا مسلطاً في اتجاهه، إذا لم نتمكن من تسليطه عليه مباشرة.
والنسوة لم يبقين عاطلات عن العمل. لم يقلن: انتهى كل شيء وليس هنالك ما نقوم به، بل عملن فهيأن الطيوب لتحنيط جسد يسوع. فهن يتابعن تكريمه حتى بعد أن فارقت الحياة جسده البشري. وهكذا علينا ألاّ نكفّ حتى في الأوقات التي يصمت فيها يسوع ويتوارى، عن جعل يسوع محور عبادتنا. فلنهيئ الطيوب – طيوب عواطفنا وأفعالنا – لكي نقدّمها منذ الآن للصديق غير المرئي، ولكي نقدمها له أيضاً عندما يشعرنا مجدداً بحضوره، لأننا واثقون أنه سيعود إلينا.
لكننا نلاحظ أنه لا تعرف استعدادات النسوة أي هيجان: إنهن يحافظن على الشريعة ويسترحن في السبت. إن زمن مكوث يسوع في القبر هو زمن الحياة السرّية، الخفية، التأملية بقربه ومعه، إنها زمن الانتظار والسكون. سبت النور عيد المتصوفين الذين يجهلهم العالم والذين لا يريدون أن يعرفهم أحد سوى يسوع. إن سلام سبت النور متجه كلياً إلى حدث أحد الفصح العظيم، إلى قدرة القيامة وفرحتها. لكن لا بد لنا من المحافظة على هذا السلام (المنتظر). وكم تعيق ذلك التحضيرات الخارجية لعيد الفصح التي تمنع العديد من الأرثوذكسيين من انتظار هذا العيد في العزلة والسكون والصمت ! فلنقرأ مجدداً في هذا اليوم كلام بولس الرسول إلى أهل رومية: (… فدُفنّا معه بالمعمودية وشاركناه في موته… فاحسبوا أنتم أيضاً أنكم أموات عن الخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع ربنا) (رو4:6، 11). فكم تسهل حياتي الروحية وتتبسط إن استطعت أن أقنع ذاتي بما فيه الكفاية أنني ميت مع يسوع ومدفون معه ! عندها سأقول، أمام كل تجربة وكل ما يلهيني عن الحاجة الضرورية الوحيدة، سأقول بكل بساطة: (ما المنفعة ؟ إنني ميت. إنني في القبر مع سيّدي). وبدل أن أناقش الحياة وأتخبط فيها، سأضع نفسي، بادئ ذي بدء، خارجها (أي خارج رغبات وشهوات الحياة الأرضيّة). وبموتي هذا عن العالم والخطيئة، سأكون أكثر من أي وقت مضى حيّاً (في الله). يوجد منهج روحي، إذا صح التعبير، (للدفن) مع السيّد، منهج كثير الفاعليّة وبمتناول كل البشر، بصرف النظر عن أوضاعهم. لقد رتّلنا اليوم: (نقرّب التسبيح، يا مسيحي، لدفنك)، فيمكننا الآن أن نضيف: (أعطني أن أكون معك في القبر).
والآن فلنمعن النظر في الشطر الثاني من خدم سبت النور والمتوجّه نحو القيامة.
تعبّر صلاة السَحَر، التي سبق شرحها والتي تقام عادة مساء يوم الجمعة العظيم، عن انتظار (أصدقاء) يسوع – التلاميذ والنسوة – وحزنهم، وتبيّن أن اهتمامهم قد أصبح مركَّزاً على القبر حيث وضع يوسف جسد المخلص. لكن صلاة الغروب والقداس اللذين نقيمهما صباح سبت النور يستبقان أحد الفصح وينقلان إلينا أولى بشائر القيامة.
تعلن تراتيل الغروب غلبة المسيح على الجحيم والموت: (اليوم الجحيم تنهدت صارخة: لقد كان الأجدر بي أن لا أقتبل المولود من مريم، لأنه لما أقبل نحوي، حلّ اقتداري وسحق أبوابي النحاسية… فالمجد لصليبك، يا رب، ولقيامتك)، (… المصلوب أخلى القبور، واقتدار الموت اضمحل… فالمجد لصليبك، يا رب، ولقامتك).
تُقرأ ثلاثة مقاطع من العهد القديم بعد الدورة الصغيرة. المقطع الأول يروي قصة الخلق (تكو1:1- 13)، لأن قيامة المسيح ستكون بمعنى ما خليقة جديدة. ثم يقرأ قصة تأسيس الفصح الموسوي (خر1:12- 11)، وذكر الحمل، والأبواب المصبوغة بالدم لإبعاد الموت، والخبز الفطير. وكلها عناصر من الفصح القديم ترمز إلى فصح أفضل، إلى (مرور) الرب مانحاً إيانا عظيم النعمة. (فلنشد أحزمتنا) ولنتهيأ إذاً لهذا الفصح الجديد. أمّا القراءة الثالثة فهي من سفر دانيال، حيث نقرأ عن قصة الفتيان الثلاثة الذين طرحوا في الأتون لرفضهم عبادة تمثال الملك (1:3- 88)، لكنهم حفظوا عجائبياً من الموت. إنهم يرمزون إلى غلبة المسيح القائم من بين الأموات، وصلاتهم الشكرية تشمل الطبيعة كلها في تسبيح الله: (… أيتها المياه… أيتها النار والاحتراق… أيها الندى والثلج والجليد والبرد… أيتها الأرض والجبال والتلال… باركي الرب…). وهكذا نشرك الكون كله بفرح القيامة.
توسّع الرسالة التي تتلى في القداس (رو3:6- 11) موضوعاً غالباً ما يرد عند بولس الرسول: (… إن كل من اصطبغ منّا في المسيح يسوع فلموته اصطبغنا… حتى إننا كما قام المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضاً في حياة جديدة). أمّا التلاوة الإنجيلية (متى1:28- 20) فهي أول نص يتحدث عن القيامة تسمعنا إياه الكنيسة في زمن الفصح هذا. إنها تصف زيارة النسوة للقبر وإعلان القيامة من فم الملاك، واجتماع الكهنة اليهود، وأخيراً ظهور يسوع للتلاميذ المجتمعين في الجليل. نرتل، أثناء الإيصودون الكبير (الدورة الكبيرة): (ليصمت كل جسد بشري، ويقف ماثلاً بخوف ورعدة، ولا يفتكر في نفسه فكراً أرضياً البتة، لأن ملك الملوك ورب الأرباب، يوافي…)، بدل الشيروبيكون. لكن البركة الختامية لم تأت بعد على ذكر حدث القيامة. لقد أعلن سبت النور القيامة، لكنه بصوت خافت. تحتفظ بشرى القيامة، صباح هذا السبت، بشيء من السرّية والخصوصية الحميمة. لكن بعد قليل، سينتهي النهار وتأتي الساعة، حيث تعلن الكنيسة، بأعلى صوتها، أن يسوع المسيح قد قام من بين الأموات.
الاب ليف جيللة
https://www.orthodoxonline.org/