قد تبدو هذه الآية، المأخوذة من سفر دانيال (٧: ٢٧)، غريبة عن واقع حالنا اليوم. فكيفما نظرنا إلـى عالمنا الحاضر، نجـد حــكّام الشعوب وعـلى تنوّع الأطُر والأساليب التي أوصلتهم إلى حيث هم، نجدهم لا يدركون (ولعلّهم حتى لا يأبهون) أنه ما كان لهم من سلطان لو لم يعطى لهم من فوق (يوحنّا ١٩: ١١). وأنهم مؤتمنون لا على من تولّوا عليهم وحسب، بل وأيضاً على المساهمة – من حيث هم – في تحقيق ملكوت الله على الأرض. فشعوب الأرض كيفما صُنّفَت، “متطورة” أو”نامية” أو”في طور النمو” أو”متخلّفة”، نرى ثمّة من يُخضعها، ومهما تنوّعت الأساليب، إلى كلّ ما هو آيل بها إلى الابتعاد عن حقّ الله. أتضليلاً بالإيديولوجيات، أو قمعاً بالحديد والنار، أو إغراقاً في دوّامات الاستهلاك و/أو “تسميماً” بمفاهيم الحرية التي لا حرية فيها بالحقيقة ولا من يحـرّرون. طبعاً إن هذا الإخضاع، في المجتمعات المصنّفة متطورة، أشكاله وأساليبه “أذكى وأدهى” منها في تلك المصنّفة متخلّفة. فانفتاح العالم على بعضه واضمحلال المسافات، قلّص مساحات القمع الدّموي وحدّ من وهج الأيديولوجيات. هذا في الشكل. أما في المضمون فالإخضاع واحد وغايته هي هي: أن لا يبقى لله مُستَقَرّ على الأرض.
يوم “اقتحم” يسوع أورشليم وهو “عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش إبن أتان” (زكريا ٩: ٩) لم يكن الواقع مختلفاً كثيراً عن واقعنا اليوم. فالذين كانوا يتآمرون على يسوع، وإن تراوحوا بين الحاسدين الخائفين على مناصبهم ومكتسباتهم الدنيوية وبين من لم يفهموا مقاصد الله ولا نبوآت الأنبياء، اشتعلوا غيظاً لما رأوا الجموع تحتشد خلف يسوع وتنادي باسمه مباركاً وآتيا باسم الرب. ولعلّ أكثر ما أغاظهم ليس كثرة المحتشدين وحسب بل فرح هؤلاء بيسوع. لعلّهم أيقنوا أن فرح الناس هذا لم يكن سطحياً أو “مهرجانياً”، وهو إن تملّك من قلوب الناس سيتحرّر الناس من سطوتهم ولن يعودوا يقبلوا أن يملك على قلوبهم ونفوسهم إلا ذاك الآتي باسم الرب. إذذاك ما عاد التآمر على يسوع بالحيلة، لاصطياده بكلمة (مرقس ١٣: ١٣-١٧) هنا وهناك، يكفي بل صار قتله مُلِحّاً لا يحتمل التأجيل: “هوذا الوارث، فلنقتله ليعود الميراث إلينا”، كما أنبأ عنهم الرب يسوع نفسه في مَثَل الكرّامين القتلة (لوقا ٩: ١٨-٢٠). فهذه الـ “ليعود الميراث إلينا” هي إذاً بيت القصيد. وكأننا بهم آنذاك، ومثلهم حكّام الأرض اليوم، يقولون “إن تركنا صاحب الميراث الأصيل يسود، سيستعذب الناس طعم عدله وسلامه وفرحه ولن تبقى لنا عروش نعتليها ولا شعوب نُخضِعها”. قلنا “مثلهم حكّام الأرض اليوم” لأننا كيفما نظرنا إلى العالم اليوم، ولا سيّما المصنّف “متطوّراً” نرى الأنظمة لا تألو جهداً ولا توفّر حيلة لإلغاء الله من العالم، وإن زالت معظم أنظمة فرض الإلحاد بالقوة.
بدخوله الطوعي إلى حيث سوف يُعتَقَل ويتألم ويُصلب، أتى يسوع ليتسلّم ملكه، بل لينتزعه من أيدي مغتصبيه انتزاعاً. أي ليُعلِن حصرية مُلكه، بقوّة، مرة واحدة وإلى الأبد. هذا هو تحديداً ما فهمه الذين احتشدوا وراءه هاتفين “هوشعنا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب”. وهذا هو تحديداً ما يتحقّق في المؤمنين وهم يعيّدون أحد الشعانين. ولا نغالي إن قلنا إن طابع الفرح الذي يغلب على الاحتفال بأحد الشعانين هو تماماً كفرح الذين احتشدوا وراء الرب يسوع آنذاك: فرح الذين وأخيراً وجدوا الملك المستحق المبايعة الأبدية، وفرحهم بأنّهم بايعوه. يقول سفر المزامير “من أفواه الأطفال والرضّع أسّست تسبيحاً” (٨: ٢)، في ترنيمة أحد الشعانين نقول “ونحن كالأطفال نحمل علامات الغلبة والظّفر” وفي أيقونة الشعانين نرى أطفالاً يفرشون الثياب أمام السيّد وآخرين يلوّحون بأغصان النخيل. أكيد أن من تجمهروا حول السيد وهو داخل إلى أورشليم لم يكونوا أطفالاً، وإلا لما اهتمّ لهم المتآمرون على يسوع. الإشارة إلى الأطفال في كل هذا رمزية، معناها أن يكون فهمنا لِمُلك المسيح، وفهمنا لمبايعتنا إياه سيّداً أوحد على ذواتنا، عفوياً كيانياً مثل الأطفال الذين يفهمون بقلوبهم، لا بعقولهم. ولكَي يفهم القلب، ينبغي أن يكون طاهراً، كقلب الطفل. وبمقدار ما تعوّد القلب أن لا يشتهي إلا ما هو لله، بمقدار ما تطهّر. إذذاك فقط يؤول فهمنا هذا إلى الفرح الحقيقي الذي لا يزول ولا يقوى عليه حزن.
نصّ الرسالة المتلو علينا في هذا اليوم يبدأ بعبارة “إفرحوا بالرب كل حين، وأقول أيضاً إفرحوا” (فيليبي ٤: ٤). وفي موضع آخر من الرسالة نفسها يقول الرسول بولس إلى أهل فيليبي أنه قد أعطيت لهم نعمة أن يتألّموا من أجل المسيح، والنعمة مدعاة فرح طبعاً. فهل هذا يعني أن على المؤمن أن يهوى الألم ويشتهيه، لكي ينال نعمة الفرح؟ قطعاً لا، وإلا لكانت هذه مازوشية مَرَضيّة. النعمة التي يتحدّث عنها القدّيس بولس هي أن فداء المسيح أعاد لنا حرية أن نسعى إلى رفض كل ما يُبعِدنا عن الله، بمؤازرة المسيح نفسه، وصولاً إلى الامتلاء منه حتى الاتحاد الكامل معه. وهذا هو ملء الفرح، فرح اليقين بأنه قد عادت إلينا نزعة الامتداد إلى الكمال. هذا ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الفرح، ليس ظرفياً بمعنى أنه ليس حالة نفسيّة يُبلَغ إليها إثر حدث سارّ ما. هذه ما تلبث أن تزول بزوال الحدث مسبّبها.إنه فرح يتذوّقه المؤمن من لحظة التزامه المسيح سيّداً أوحد على كيانه والإنجيل قانوناً أوحد لحياته، ويمتلئ منه بمقدار ما يبقى أميناً للالتزام. حسبه أن يعي أنه من تلك اللحظة، وإن كان بعد في أول الطريق، هو آيل إلى حيث “لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت” (رؤيا ٢١-٤).
الأب نكتاريوس (خيرالله)، بيروت
5 نيسان2015