“الآن تطلق عبدك أيها السيد…”
لما دخلت العذراء القديسة ومعها خطيبها العفيف، بالطفل الإلهي إلى الهيكل، إتماماً لفرائض الشريعة، التقاهما شخصان لا نعرف عنهما إلا القليل. لكنّه قليل كاف لنعرف أنهما من فئة ” المنتظرين فداء في أورشليم”، بملازمة هيكل الرب وبالصوم والصلاة. في النص الإنجيلي الذي يروي حدث تقدمة السيد طفلاً إلى الهيكل، يستعمل القديس لوقا تعابير طابعها نبوي بامتياز، “ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه؛ وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب”، وموهبة النبوءة بحسب معلّمي اليهود كفّت بعد الأنبياء القدماء، ولن تعود إلا متى جاء زمان المسيح. الصفة النبوية إذاً، على الشيخ التقي، شهادة بحد ذاتها، للطفل المقدّم الآن إلى الهيكل أنه المسيح المتظر.
إن أهمية شهادة سمعان الشيخ، عبر الأنشودة التي تلاها حاملاً على ذراعيه الطفل الإله، تكمن في تضمنّها أبعادًا متعددة: في سفر أشعياء النبي أن الرب الإله شمّر عن ذراع قدسه، (٥٢: ١٠)، وهنا نرى سمعان البار يأخذ على ذراعيه الطفل الذي وُعِد بأنه لا يرى الموت قبل أن يراه، يبارك الرب شاكراً – لا باسمه وحده بل باسم المنتظرين الخلاص كلّهم. هذا الطفل هو نفسه الآتي بالنور، لتستنير به الأمم ، كما قال إشعياء (٤٢: ٦)، وهو أيضاً المجد لأورشليم (٦٠: ١). النور لاستعلان الأمم والمجد لشعب الله، المتحدّر منه النور بالجسد. من ثم يخاطب الشيخ العذراء القديسة، بتعابير نبوية أيضاً، جديدة ولكنها تؤكد على القديم: ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل”. أي إنه هو المقدس، وهو حجر العثرة أيضاً. إن استقام اسرائيل في السلوك والإيمان والعبادة الحسنة قدّسهم، وإن تمسّكوا بالنفاق اصتدموا به صخرة. في سفر هوشع يقول الرب الإله “طرق الرب مستقيمة والآبرار يسلكون فيها، أما المنافقون فيعثرون” (١٤: ٩).
بهذه الأنشودة، يعلن سمعان ممثلاً إسرائيل الأمين فرحه بتسليم الأمانة، بعد طول انتظار، واسرائيل الأمين لمواعد الله عرف أن لا دور له إلا تمهيد السبيل لتحقق الفداء الحاصل بتجسد الكلمة ابن الله. نقول “إسرائيل الأمين” لأن ثمة من غلبت عليهم قساوة أعناقهم فباتوا يفسرون محطات التاريخ الإلهي على ما يشتهون، وكأنهم أرادوا احتكار الله بل وتطويعه تعالى لتاريخ أرادوه هم لأنفسهم. “الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام” قالها سمعان لأنه بتقواه نال عند الخالق دالة أن لا يغادر العالم قبل أن يرى بعين الجسد المسيح مولوداً، وبنور الروح القدس خلاص الخليقة بأسرها، عهداً جديداً للبشرية يفتتحه تجسد الإله وقد حان “ملء الزمان”. إسرائيل الأمين يختم مهمته بلسان سمعان فرحاً، تماماً كما سيفعل المعمدان في ما بعد خاتماً زمن الأنبياء بقوله: “إذاً فرحي هذا قد كمل؛ ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص” (يوحنا ٣: ٢٩-٣٠).
ابن الله المولود من العذراء إنساناً يأتي من عند الآب نوراً لا لإسرائيل وحده بل للأمم كلها، فالمشرق لا يمكنه أن يحتكر نور الشمس وإن كانت من عنده تطلع. هذا أيقنه إسرائيل الأمين فبات مطمئناً إذ إنه “سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب”، تحقيقاً لقول الرب بنبيه أشعياء (٥٩: ٢٠). قساوة القلب التي أصابت بعض إسرائيل لا يمكنها أن تزول إلا متى أشرق نور الخلاص على الأمم التي كانت بعد ما آمنت، فينال إسرائيل عندئذ خلاصه الموعود إذ يكون قد أتم ما تأسس من أجله (رومية ١١: ٢٥).
إسرائيل الأمين لمواعيد الله مستمر على مدى العصور، في جماعة المؤمنين الذين عبروا بالمعمودية من عبودية البشرة الساقطة إلى نعمة الاتحاد بالمسيح والكمال فيه. بمعنى آخر وعلى المستوى الشخصي، فأنت متى كنتَ، مثل سمعان الصدّيق، تشتهي في كل حين أن تتفتّح عيناك على خلاص الرب، أنت إذن كلما التقطت ومضة من ومضات المسيح، أَوَأنـت تقرأ الإنجيل أو في حياتك في الكنيسة أو في جهادك الشخصي، تشتهي أن “تنطلق”، أي أن تتفلّت من قديم ذاتك، إلى ما سوف يُجدّد المسيحُ فيك.
الأب نكتاريوس (خيرالله)