اخلع نعلَيك من رجلَيك لأنّ المكان الّذي أنتَ واقف فيه أرض مقدّسة. هذا ما قاله ملاك الرّبّ لموسى، قديمًا، لمّا عاين العلّيقة ملتهبة، ودنا منها. اقترب موسى من العلّيقة، أوّل أمره، مستغرِبًا! أراد أن يفهم! لا بدّ أن يكون ثمّة تفسير لما يحدث! لكنْ، أوقفه الملاك عن التّقدّم صوبه بنيّة معرفة ما يجري! لا يدنو أحد من حضرة الله إلاّ مخلوع النَّعلَين، أي في موقف مهابة وعبادة! المكان مقدّس! قاله الملاك! فارتعد موسى! بثّ في قلبه الملاكُ رعدةً كما لا يعرف الإنسان متى ارتجف بإزاء ما يخيف من أمور هذا الدّهر! الله يأتي كآخر تمامًا، كقدّوس؛ وحيثما حلّ يعلو الإنسان، قدّامه، عن المألوف وغير المألوف، إلى بُعد آخر، إلى عالم آخر، ليس من هذا الدّهر! إنّما الله يسمو على الفهم؛ وما لم يعطِ الإنسانَ ما يدنو به إليه من عنده، فإنّه يبقى خارجًا عنه! وإن اقتحم يموت! لا يرى أحدٌ الله ويحيا!
الله خارجَك وما لك حتّى يُدخلَك إليه! القدسات للقدّيسين!
ما هو إسُّ الوِقفة بإزاء الإله في الكيان؟ هو ما أسماه قوم: “الرّعدة الأسراريّة” في القلب! هذه تكون فيك فتجعلك إلى ربّك، وإن غابت تبقى خارجًا، في عقلك أو مشاعرك أو حواسك، تراودك أفكار أو أحاسيس عديمة القيمة لأنّها ليست منه، ولا تبلغه بحال! بإزائه أنت أصمّ أبكم أعمى حتّى يجعل إصبعه في أذنَيك الدّاخليّتَين ويمسَّ لسان كيانك ويفتح عيني قلبك بتفلة ماء فمه في التّراب! الجسد لا ينفع شيئًا، الرّوح هو الّذي يحيي!
قديمًا قيل: “بدء الحكمة مخافة الله”. إذن لا يدخل أحد الحكمةَ النّازلة من فوق إلاّ بخوف ورعدة! لا بل كلّ المسير مع الله إليه مشوب بهذه المخافة! صحيح أنّ مخافة الله، أوّل الأمر، صبيانيّةً تكون، قريبة من مخافة ما يخيف في هذا الدّهر، وهذا أساسيّ في مطلع الطّريق لِتشرع في التّقدّم نحوه، وفق ما هو مألوف لديك، لكنَّ مخافةَ الله لا تلبث أن تأتيك بغير ما تظنّ أنّك تعرفه؛ تأتيك لتُدخلك إلى حيث لا يمكنك أن تتكهّن أنّك قد تدخل! ربّك، دائمًا، آتيك جديدًا! صعب على المرء أن يطأ أرضًا لا يعرفها سلفًا، أو لا يتصوّرها! أمّا أرض ربّك فظلمةٌ تفوق ما تعرف من الأنوار بهاء! هذه تطأها على كلمة ربّك، وفي كيانك صحوةٌ ما عرفت نظيرها، والذّهول يعتورك، والرّعدة تمدّك، في آن، بثقة عميقة وطمأنينة، وبما يُطلق فيك ما يقرب من الحسّ الفذّ، غير الأحاسيس الّتي عرفتها قاطبة. هذا يجعل الخشعة والعبادة والتّسبيح يسري فيك كمسّ كهربيّ، أو يترقرق فيك سلاميًّا عميقًا طالما أنت مُعطى أن تقف في حضرةِ مَن يوقفك لديه! وتبقى رعدةُ مخافةِ ربّك ربيبتَك، لا تدري ما تمدّك به إذا ما كان في الجسد أو خارج الجسد، حتّى تأتي بك إلى محبّة ومحبّات لم تكن لك بها قِبلة! ولو نطق أنطونيوس الكبير بكونه، وقد بلغ محبّة ربّه، لا يخاف الله بعدُ، فإنّ الرّعدة تبقى في كيانه وتترسّخ، لكنّها تنأى عن كلّ ما هو صبيانيّ، ما هو في البَشَرة ممّا يدنو من مخافات النّاس!
الرّبّ الإله مدرِّبُنا على تعاطي مخافته في كلّ آن! وما الحياة في المسيح، ههنا، سوى تمرّس دؤوب على الدّخول إلى حضرة الله بخوف ورعدة! مخافته تنقّي فينا الزّغل والخَبَث، حتّى تأتي بنا، في الذّهول، إلى بهاء لا يُنطَق به وإلى ما لا يسوغ التّعبيرُ عنه! حضرة الله أبعد من الكلام! لذا تأتيك في الصّمت، لا الصّمت عن النّطق بل الدّخول إلى ما لا يُنطق به! لغة الله غير لغة النّاس! أنّى لك أن تتفوّه بما يفوق إدراكك! تكفيك، إذ ذاك، الاستكانة إلى مَن تتحرّك صوبه أحشاؤك كحبيب ولا أحبّ، وليس كأيّ حبيب! “أخبرني يا مَن تحبّه نفسي أين ترعى أين تُربض عند الظّهيرة… طَلبتُه فما وجدته… وجدني الحرَس الطّائف في المدينة، [الحائل ما بيني وبينه، النّاموس الّذي يشدّني إلى الحرف]، فقلت أرأيتم مَن تحبّه نفسي. فما جاوزتهم إلاّ قليلاً حتّى وجدتُ مَن تحبّه نفسي” (نش 1: 7؛ 3: 2 – 3)!
الحياة في المسيح من مخافة الله تنبثق، وتُنشِئ على مخافة الله! مَن لا ينمو في الرّعدة الأسراريّة بإزاء الله لا يعرف الله! يبقى في حدود التّصوّر والتّخمين والتّنظير ومشاعر النّاس وأحاسيسهم! إنّما الحاجة لأن تخلع، أبدًا، نعلَيك من رجلَيك، ما يجعلك في تماسٍ مع الأرضيّات والبشريّات! الوصيّة تدرّبك، لكن الأهمّ أن تبلغ، بالوصيّة، تخطّي ذاتك إلى السّجود بالرّوح والحقّ! فقط الصّلاة والمحبّة تبلِّغانك المرتجى! كلّ كلام لا يستحيل صلاةً ومحبّةً لغوٌ! العقل لا ينفع شيئًا حتّى يصمت ويشاهد، صاغرًا، أعمال الله، ويعبّ منها، إذ ذاك يشهد بعد أن تكون رعدة العليّ قد اعتورت الكيان واشتملته، وشدّت العقل إلى ما فوق المعقولات، في فعل تمجيد يُحدِّث عن تسبيح الملائكة، ولا يكفّ عن الهذيذ حتّى الثّمالة!
في عالم يحكمه العقل وتستبدّ به النّفسيّات ويغرق في ما للحواس، أنّى للرّعدة الأسراريّة أن توجد وتنمو وتستقرّ! أنّى للقلب أن يستدعي حضرة الله! هلمّ واسكن فينا وطهّرنا من كلّ دنس! لا تعطي الوصيّةُ حياةً جديدة وهي مغمّسة بأسيد هذا الدّهر! يقظةً في الكيان نلتمس في غمرة ما يملأنا من ذواتنا ويقتل فينا كلَّ رغبة في إفراغ ذواتنا والخروج من ظلماتنا إلى أنوار إلهنا! إنساننا سَكِرٌ بذاته فكيف يعرف إلهه؟!
هيّا يا موسى، كليم الله، بثّنا ما خبرتَ، أن نخلع أنعالنا كما خلعت نعلَي عقلك وجسدك وأحاسيسك، دخولاً إلى قدس إلهنا، إلى شركة النّار غير المحرقة، إلى صحبة النّور الّذي يسمو على الأنوار الّتي عرفنا، عسانا نمسي، بنعمة من لدن الّذي تجسّد من لحمنا ودمنا، علّيقة ملتهبة بالرّوح النّورِ الّذي حلّ في طبيعتنا مستدعيًا إيّانا إلى الشّركة معه في الحياة الأبديّة!
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 12 حزيران 2011