ما معنى الإلحاد؟ كما سبق فذكرنا، في مقالة سابقة، الإلحاد هو القول بأنّ الله غير موجود. هذا أساس الإلحاد. وما تبع، في التّاريخ، كان تطوّرًا، وفق الظّروف، في هذا الاتّجاه أو ذاك. شيء من الخوض في الموضوع ينفع.
ماذا في شأن حقيقة الإلحاد؟.
ثمّة إلحاد نظريّ وآخر وجوديّ. في الإلحاد النّظريّ تحاول أن تخفي موقفًا انفعاليًّا، بالاستعانة بالمقولات العقليّة والنّظريّات العلميّة، لتثبت أنّ الله غير موجود وأنّ الكون يسيِّر ذاته بذاته. ولكنْ، أن تثبت أنّ ثمّة كائنًا غير موجود أمر غير ممكن. لماذا؟ لأنّنا لو افترضنا، جدلاً، أنّ الله غير موجود، فعدم وجوده يجعله خارج نطاق إدراك العقل. وما هو خارج نطاق إدراك العقل فلا قول للعقل فيه ولا للعِلم. فكيف تثبت، إذ ذاك، بالعقل، أنّ الله غير موجود؟ هذا محال!. أمّا، إذا افترضنا، جدلاً، أنّ الله موجود، فجلّ ما قد يكون العقل قادرًا على إثباته هو وجود الله، لا عدم وجوده، وذلك في حالة واحدة فقط: إذا أثبتنا أنّ الله معقول!. ولكنْ، كيف تثبت ذلك؟ أمّا إذا لم يكن الله معقولاً، فجلّ ما يكون العقل قادرًا عليه هو مجرّد الاستدلال على وجود الله من خليقته!. في كِلا الحالَين، سواء افترضنا أنّه موجود أم غير موجود، فليس واردًا أن يكون العقل قادرًا على إثبات عدم وجود الله، ما دمنا في نطاق الفرضيّات لا اليقينيّات!. من هنا أنّ الإلحاد النّظريّ، فكريًّا، ساقط ولا قيمة له!. ولا يعدو كونه ردّ فعل عاطفيّ متلبّس بالمقولات الافتراضيّة الإدراكيّة!. فإن شاع فبقوّة الإرهاب لا بقوّة الإقناع!. هذا، إذا لم يكن خدعة ذكيّة تنطلي على الجاهل الأحمق!.
عمليًّا، الإلحاد النّظريّ هو مجرّد إلحاد وجوديّ مقنّع!. والمقصود بالإلحاد الوجوديّ التّنكّر لوجود الإله عند مَن لا تنضح منه مواقف يستبين حضور الله فيها، ولا يشير إليه سلوك الّذين يقولون بأنّهم يؤمنون به!. حتّى لو قلنا: “الله محبّة”، فإن كان لا يحبّ أحدنا الآخر، فإنّ الإله الّذي ندّعي أنّنا نؤمن به ونقول وصيّته، لا نتعاطاه موجودًا. لا أقول لا يكون موجودًا، في ذاته، بل لا يكون موجودًا في مَن يدّعون، بالأحرى، أنّهم أخصّاؤه!. فإذا لم يكن موجودًا في مَن يقولون لي عنه، فحتّى لو كان موجودًا، في ذاته، فما قيمة وجوده لي ولهم!. فقط مَن بلغوا اللاّهوى وعاينوا اللاّهوت، يعطيهم ربّهم أن يعرفوه في ذاته، أمّا العاديّون فليس معطى لهم!. فإن لم يعاينوا ربّهم في البشر فلا طاقة لهم على معاينته في ذاته إلاّ بتدخّل من فوق، وهذا غير مألوف!. للعامّة، القول هو هذا: “كونوا متمثّلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح” (1 كورنثوس 11: 1). ما يوجب على الكلّ السّلوك بأمانة في ما لله حرصًا على الشّهادة الأمينة لله، بإزاء الآخرين!. حذار أيّ إله نعطي في علاقتنا الواحد بالآخر!. ليس ما نقوله هو الأهمّ، بل ما نكون إيّاه!.
على هذا، الإلحاد الوجوديّ إن هو سوى ردّ فعل على كون الإله الّذي يقولون لي عنه غير الإله الّذي أرى، في حسّي، أنّهم يؤمنون به!. استنتاجي يكون أنّ الإله الّذي يتكلّمون عليه غير موجود فيهم، فيما الإله الّذي أراه فيهم لست أريده!. هذا يجعل أنّ الإلحاد، في عمقه، تنكّر لطريقة حياة مَن يُسمَّون باسم المسيح حين لا تكون سيرتهم موافقة، أو، بكلام أدقّ، مطابقة لما ينادون به أنّه منه، أو، أيضًا وأيضًا، بكلام أدقّ، لما ينادي يسوعُ به، أي لِمَا يشهد به تراثهم القويم أنّه إيّاه!. هذا لأنّ الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا!. المسيحيّة ليست مذهبًا فكريًّا بل حياة جديدة!. الكلمة الإلهيّة، في آن، مأكل للحياة الجديدة وإفراز منها!. الإنجيل هو لتكون إيّاه!. أنت والإنجيل في حال تناضح!. من حشاك يخرج الإنجيل أو يولد، في عيون النّاس، مُطالعيكَ، ميتًا!.
الملحد، وجوديًّا، يبحث، بالأكثر، عن الأصالة، وإذ لا يجدها يهتك محرمات الفكر الدّينيّ لأنّه يرفض الابتزاز الّذي يتعاطاه القيِّمون عليه، كما يرفض مسرى القطيع!. لكنْ، ثمّة ملحدون أشرار. هؤلاء، بالأكثر، شرّهم، ليس من إلحادهم، بل من عبادتهم لأنفسهم حتّى قمع الآخرين وقهرهم!. إلحادهم، بالأحرى، ادّعاء وقناع وإزكاء لوِحشتهم ووحشيّتهم بحيث يكون تفلّتهم بلا ضوابط!. في كلّ حال، لست عن هؤلاء أتكلّم، بل عن الّذين أرى فيهم حسًّا إنسانيًّا مرهفًا، لكنّهم، في آن، يرفضون الاندراج في صفّ مَن يقولون إنّهم يؤمنون وهم مراؤون!. يقولون بالله المحبّة وإلههم السّلطة والمال!. يريدون أن يعلِّموا المحبّة وهم لا يحبّون!. يقولون بمجد الله وهمُّهم وجاهاتهم!. يعظون ولا يتّعظون!. يدعون إلى الاتّضاع وهم مستكبرون!.
الملحد، وجوديًّا، يدين المسيحيّة الكذوب!. لذا هو مرآة لواقع المسيحيّة، هنا وثمّة، وأحيانًا للمسيحيّة التّاريخيّة، ومدعاة لا للإدانة بل لعودة المسيحيّين إلى أنفسهم وإصلاح ذواتهم تأديبًا!. وكلّنا معنيّ بذلك بلا استثناء!. علينا ينطبق القول الّذي قاله الرّسول بولس في شأن اليهود وأمانتهم للشّريعة. قال: “أنت الّذي تعلِّم غيرك ألست تعلِّم نفسك؟ الّذي تكرز أن لا يُسرَق أتسرِق؟ الّذي تقول أن لا يُزنى أتزني… فإنّ اسم الله يُجدَّف عليه بسببكم… كما هو مكتوب” (رومية 2)!.
الملحد، وجوديًّا، لأجل المفارقة، يبحث، بمعنى، عن الإنسان القدّيس!. جاءنا رجل قال عن نفسه إنّه ملحد وهو يستجير بوالدة الإله!. سألته: كيف تكون ملحدًا وأنت تستعين بوالدة الإله؟ قال: كيف لي ألاّ أكون ملحدًا، والّذين يحكمون في الكنيسة يحكمهم حبّ السّلطة والمال والمجد الفارغ!. وإذ انتقل الكلام معه إلى الحديث عن أحد الرّهبان البارزين، عندنا، قال: هذا رجل من طينة أخرى، هذا رجل قدّيس أُجلّه!. ثمّ استرسلنا في الكلام على رجال الكنيسة، فأتينا على ذِكر أشخاص معروفين، فقال عنهم: فلان مفكِّر كبير، وفلان كاتب كبير، ولكنْ لم يبدُ له أنّ لدى هذا أو ذاك مِسحةَ قداسة!. قارنَ نفسَه بمَن ذكر واعتبرهم مجرّد عشراء دون أن يرى في سيرتهم علائم إلهيّة بارزة كما رأى في ذاك الرّاهب، ما جعلني أشعر بأنّه، على إلحاده، يحتفظ بجانب إيمانيّ حقيقيّ، ولو كان كامنًا!.
سألتْ راهبةٌ القدّيسَ بائيسيوس الآثوسيّ مرّة: ماذا تقول عن انتشار عدم الإيمان بهذا القدر الكبير في أيّامنا؟ فأجاب: هذا صحيح، ولكن الصّحيح، أيضًا، أنّنا، كثيرًا ما نلقى، في داخل مَن يقولون إنّهم لا يؤمنون، نفحةَ إيمان مخبوء. جاءه، ذات يوم، شاب، وقال له: “أنا لا أؤمن بالله”!. فدعاه القدّيس بائيسيوس قائلاً: اقترب يا بنيّ!. أتسمع صوت العندليب؟ مَن أعطى هذه العطيّة الجميلة لهذا العصفور؟ للحال تحرّك قلب الشّاب، فذهبت عنه قسوة عدم الإيمان، وتغيّر وجهه!. ثمّ ختم القدّيس بائيسيوس كلامه بالقول: “في كلّ حال، شاء النّاس أم أبوا، سوف يأتي وقت يؤمن فيه كلّ أحد، لأنّ النّاس سوف يصلون إلى طريق مسدود، وسيتدخّل المسيح في مسار الأمور، في نهاية المطاف!. (كتاب الصّحو الرّوحيّ. سلسلة ياروندا).
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 6 أيلول 2015