“خرج الزّارع ليزرع زرعه!” (لو٨: ٥).
الزّارع – الرّبّ يسوع – الأقنوم الثّاني للثّالوث القدّوس، اللّابس بَشَرَتنا، أتانا، ويأتينا، اليوم وغدًا، ناثرًا لنا حبّات الحنطة؛ كي نلتقطها، نحن أولاده، عصافير السّماء، ونغتذي بها!!.
من هذا اللّقاء، لا الموسميّ، إنّما اليوميّ، مع إلهنا، نتمخَّض في عيشنا والرّبّ يسوع… حضوره!. كلمته!. وصاياه!. حياته!… لتصير حياتنا!…
نحن الأرض!. وهو الإله الزّارع!. والبذار الإلهيّ الزّرع!!. هذا ملء عطاء حياة الثّالوث لنا، على الأرض، وفيها!!. هي وصاياه مبذورة في قلوبنا، بدءًا!!.
تراجيع الحبّ هذه، بين الإله والإنسان، تُبقي روح حياةِ الإنسان، على الأرض!!. وتُبقي التّربةَ – جسدَ الإنسانِ، المخلوق قبل الإنسان؛ ليكوِّن الإنسان منها حياته، بعد أن كانت الأرضُ خرِبَةً، وغمرُ الماء عليها!!.
ونفخ الإله روحه في جسد الأرض – الإنسان!!… فصار الإنسان أرض الله، المنتَظِرَةَ زرعَه ليتسقّط فيها؛ فيُنْشئها، ويُغذّيها هو من روح الرّبّ السّاكن فيه، ومن أعراق جبينه يسقيها!!.
هَلِ الإنسان هو الأرض الجيّدة؟!. نعم!!. إذا أراد أن يكونها بالنّعمة الإلهيّة، وبتقديم قلبه اللّحميّ على طبق كيانه إلى الإله؛ ليخلُصَ، مرّة وإلى الأبد، من جحود عقله، واستكباره، ومناطحته الإله؛ ليغلبه… باتّضاعه!!.
الأرض الجيّدة تتوسّل الإنسان أن يكونَها، لتصير أرضَ إبداعِ الإله المُبرِكَةَ، المُخْصِبَةَ كلمتَه فيها؛ ليفلحها الإنسان، ويعملها مع ربِّ عمله، يسوع المسيح، وإخوته؛ فيحيوا كلّهم الحياة الجديدة الّتي وعدهم الإله بها!!.
أَعطى المفسِّرون بعض الإيضاحات حول ماهيّة الأرض لزرعها. وكان الرّبّ قد أَوضحَ أنماط زرع الأرض، في هذا المثل، اليوم؛ وكيف تتفاعل معها، إذا أصابتها البذور: ما الّذي تقبله، وما الّذي ترفضه منها؟!…
صورة زُرّاع الزَّرْع، في لوحات الحياة، تتمحور في أربعة أنماط الأرض. أمّا حبّات الزّرع، فتبقى واحدة؛ لأنّها من يد الخالق الواحد، المُعطي الكلّ ما يوافقهم، والنّاثر إيّاها ليأكلوا منها، إن أتوه، أو رجعوا إليه.
تقع البذور على قارعة الطّريق… لأنّ الزّارع، بزرعه، كان يبذر برشِّ البذور بيُمْناه على وسعِ ما تطاله؛ فكان لا بدّ من أن يقع بعضها على أطراف الطّريق، حيث التّربة مَدوسةٌ تحت أقدام المارّة الّذين يهرعون مارّين، ولا أصل فيهم، فتنعدم تربة الزّرع الجيّدة منهم… أمّا الزّرع الّذي يسقط على الصّخر، حيث التّربة ضحلة، وتحتها طبقة صخريّة لا تُنبت الحياة… فيشير به الإله إلى الجموع الّتي كانت تتبعه، لتشاهد معجزاته، وتخبر عنها، لا لتحيا معه مسيرته إلى المنتهى… فيما الشّوك، الّذي يَسْقط الزّرع فيه فيختنق، هو الحياة المزروعة في حبّ العالم؛ الّتي كلّما عاشها الإنسان، يصير عبدًا لها، باتّكاله الكامل عليها؛ وينسى، شيئًا فشيئًا، انتماءه إلى الإله، ربّه وخالقه، الّذي يوصله، في سعيه، إلى الحياة الأبديّة، إلى فهم الرّوح وعيشِها، إذا قَبِلَ الكلمة الإلهيّة إلهًا من الإله، لا ربًّا من أرباب الحياة الدّهريّة اليوميّة، في “الرّكض” والسّعي لتحصيلٍ أكبر وأوفر…
هكذا، تضعف الرّوح شيئًا فشيئًا؛ تنحلّ، ويموت الإنسان في نفسه، ومن ثمّ يُميت خالقه، ليحيا كأداة، بل كآلة في مجتمعه وبيته، ومع ذاته!!. آلة لا حسَّ فيها، ولا روح، ولا شفافيّة، ولا نور؛ بل شهوانيّةٌ تمزّقه، ومنطق فكره، وحسّه الرّوحيّ!!. والرّبّ قال، على لسان رسوله يوحنّا الإنجيليّ: “الرّوح هو الّذي يُحيي. أمّا الجسد، فلا ينفع شيئًا!” (يو٦: ٦٣).
“الزّرع هو كلمة الله!” (لو٨: ١١). وجميع مَن في الحياة هم “قارعة” الطّريق… والصّخر… والشّوك… والأرض الصّالحة!!.
“أمّا الزّرع الّذي سقط في الأرض الجيّدة، فهو الّذين يسمعون الكلمة، فيحفظونها في قلبٍ جيّدٍ صالحٍ، ويُثمرون بالصّبر” (لو٨: ١٥). “بصبركم تقتنون نفوسكم” (لو٢١: ١٩)… “مَن صبر إلى المنتهى، فذاك يخلُص” (متّى١٠: ٢٢…).
يقول الآباء، في علم الصّلاة والرّوح، إنّ الإنسان فَسُد قلبه، إلى درجة أنّه صار لا يرى أنّ المسمار الرّابع، الّذي بُجِّن به جسد المسيح، هو “الصّبر”!. “صبرًا صبرتُ للرّبّ، وهو أصغى إليّ” (مز٣٩: ١)…
ما هو “الصّبر”، أو “الإثمار بالصّبر”، الّذي ذكره يسوع في إنجيل اليوم، قائلًا: الأرض الجيّدة هي الكلمة الإلهيّة، الّتي تدخل خلايا الكيان بملئه، وتُحْفظ في القلب الجيّد الصّالح، أي القلب المُحِبّ الّذي قدّمناه إلى الرّبّ هديّة منه، ليثمره لنا بالصّبر؟!…
الصّبر هو الحبّ!!. الصّبر هو الوداعة في ألّا يطلب الإنسان شيئًا لنفسه، آخذًا إيّاه من أمام أخيه!… الصّبر هو القبول!… قبول التّعيير، والإهانات، والأفكار البذيئة الّتي نحاكِم وندين بها الآخر!… الصّبر هو ألّا نلطم مَن لطمنا، بل أن نُحني الرّأس قائلين: “سامحني، لأنّي أثرتُكَ وأغضبتُك”!… الصّبر هو أنّك، إن أُعطيتَ أن تعرف مكنونات القلوب، تسامح، وتقبل، وتفرح بالسّوء والظُّلم؛ فتصير على صورة ربّك ومسيحك، حين قالوا عنه إنّه، وهو الإله، صار صديق الزّواني والعشّارين. فقال لهم، بعد أن علّقوه على الصّليب، مبجِّنين إيّاه على الخشبة، لتسيل دماء يديه، ورجليه، وجنبه، بعد طعنه: “اغفر لهم، يا أبتاه؛ لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!” (لو٢٣: ٣٤)…
والفعل، هنا، هو أن يتّحد الإنسان بخالقه، وربّه، وإلهه!!. فلا تبقى له فرصة للجهاد والخلاص وقول كلمة الحقّ، خارج مشيئة إلهه؛ لأنّ الكلمة، الّتي من الإنسان، ماتت بموت الإله على الصّليب، وبموت الّذين هربوا من وجه القوس للدّفاع عن حقِّ الإله فيهم، معلَّقين لأجل خلاصهم على صليب الحقّ والعدل والحبّ… “ولمّا قال هذا، نادى: مَن له أذنان للسّمع، فليسمع!” (لو٨: ٨).
اليوم، سقط قناع الكذب والاحتيال، اللّذَيْن أغوت بهما الحيّةُ – الشّيطانُ آدمَ وحوّاءَ، لإخراجِهما من فردوس خلاصِهِما، وتعليقِهما على كذبة “الكذّاب وأَبي الكذّاب”، لا على صليب يسوع، للموت؛ فالوصول به إلى القيامة!!.
نحن عُلّقنا على صليب خلاصنا، باتّحادِنا بالرّبّ يسوع، وأَخْذِنا صليبَه علينا؛ فبتنا أولاد القيامة، أولاده، أولاد “الطّريق والحقّ والحياة!”.
نحن، اليوم، صرنا الأرض الجيّدة، صرنا الّذين يؤمنون، عارفين أن لا مطرح لهم على هذه الأرض، إلّا صليب ربّهم؛ ومنه وفيه يحيون المعرفة البكر، الّتي تجعلهم آلهة، أرضًا صالحة لبذاره!!…
الرّبّ يسوع المسيح إلهنا يقدّسنا، لا لأنفسنا، بل له؛ إذ يعلّقنا بالحبّ معه على صليب هوانه؛ ليُخلّصنا من خطايانا، بموتنا معه؛ فيصير الصّليب عربونَ حبِّ الإلهِ لنا، الّذي هو أجرته من العالم، حتّى يمجّد به أباه السّماويّ وروحه القدّوس؛ فتصير حياة الثّالوث، على الأرض كما في السّماء، حياةً أبديّة معمَّدة بالنّور!!… آمين.
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
11 تشرين الأول 2015
الأرض الجيّدة!.