الفقير بابُنا إلى الملكوت
حديث للمطران سابا (إسبر)، مطران بُصرى حوران وجبل العرب والجولان
في كنيسة النبيّ الياس-المطيلب- أبرشيّة جبل لبنان- أوّل آذار 2011
(مفرّغ عن آلة التسجيل)
أشكركم بدايةً على اختياركم هذا الموضوع المهمّ جدّا في تتميم حياتنا المسيحية. لا أعلم من الذي اختار العنوان، ولكنه يُعبّر عن لاهوتنا ونظرتنا تجاه الفقير. ولذلك سوف أبدأ معكم بقراءة استشهاد بسيط من القديس اللاهوتي الكبير غريغوريوس النيصصي والذي ينطق بكلمات هذا العنوان نفسها “الفقير بابنا إلى الملكوت”. يقول: “إن هؤلاء الفقراء هم الذين يكنزون الأشياء الصالحة التي نتطلّع إليها، وهم حُرّاس أبواب المملكة، يفتحونها أمام الرحماء، ويُغلقونها في وجه القساة والذين لا ينقُلون خيرًا. إنّهم أقوى مَن يتّهمون، وأفضل مَن يدافعون. إنّهم لا يتّهمون ولا يدافعون بالكلمات، ولكنّ الربّ يرى ما يُفعل بهم. وكلّ فعل يصرُخ بصوت أعلى من صوت المنادي أمام الله فاحص القلوب”.
إذ نحن مقبلون إلى الصوم، المتمم الأساسي لصيامنا هو البُعد الذي نسمّيه اليوم “البُعد الاجتماعي” الذي هو في الإنجيل “بُعد المحبّة“. ولكي ندخل الصوم المقدّس، علينا أن نكون منتبهين إلى أنّنا يجب أن نُتمّم فيه بُعد المحبّة. منذ بدء المسيحيّة، عندنا شهادات متوفّرة منذ القرن الثاني أن المسيحيّين كانوا يملكون في كلّ كنيسة “صندوق شركة”، يصومون عندما يحتاج أحد المؤمنين إلى مساعدة، فينقطعون عن الطعام، ويكتفون خلال ذلك اليوم بالماء والخبز فقط، ويأتون بثمن الطعام الذي صاموا عن تناوُله إلى الكنيسة ويضعونه في صندوق الشركة، ومن ثمّ يوزَّع على المحتاجين من المؤمنين.
إذًا، بُعد المحبّة في الكنيسة هو بُعد أساسي جدًّا، وفهِمَه المسيحيّون الأوائل تجسيدًا لكلمة الانجيل التي تتكلّم كثيرًا عن المحبّة وعن الخدمة للمحتاج لكلّ أنواع الاحتياجات. لذلك سأبدأ معكم بمراجعة بسيطة لمفهوم الفقر في الكتاب المقدّس، في العهد القديم وفي العهد الجديد، ومن خلاله سأذكُر بعض الاستشهادات التي يتكلّم فيها الكتاب المقدّس عن أهمّيّة العطاء والخدمة والمساعدة.
في العهد القديم، حيث كان الناس لا يعرفون بُعد كمال الإيمان في المسيح، وكانت حياتهم مُركّزة على الأرض أكثر ممّا هي على الملكوت السماوي، كانوا ينظرون إلى الثروة على أنّها بركة من اللّه، والفقر هو لعنة من اللّه. ولكن كان الكتاب المقدّس في العهد القديم يشدّد على وجوب مساعدة المحتاج والاهتمام بالغريب، وخاصّةً الأرملة واليتيم والفقير. هذا الحثّ للمؤمنين في العهد القديم طال طبعًا المؤمنين الفقراء أكثر من الفقراء غير المؤمنين أي غير اليهود. إذًا، في ذلك الإطار، كان التشديد على مساعدة الفقراء، ولو أنّ الفقر هو لعنة من اللّه ودليل على عدم رضى اللّه عن الانسان. إلى أن أتى الأنبياء في العهد القديم فبدأوا بتغيير هذه النظرة، وبدأوا بِلَوم الأغنياء الذين يستغلّون مال المساكين ويغتَنون على حسابهم، ووبّخوا بقسوةٍ الذين قلوبهم قاسية ولم يكونوا يهتمّون بمساعدة المحتاجين، حتّى وصلوا مع النبيّ إشعياء الذي يقول كلامًا جميلاً جدًّا، جيّد أن نتأمّل فيه ونحن ندخل إلى الصوم الكبير. في الإصحاح 58 يقول: “أليس هذا صومًا أَختارُه الذي هو حَلّ قيود الشرّ، وفَكّ عُقد النير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا، وقَطع كلّ نير؟ أليس أن تَكسر للجائع خبزَك، وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتكَ، وإذا رأيت عريانًا أن تَكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذ ينفجر مثل الصُبح نورُك، وتَنبتُ صحّتُك سريعًا، ويسيرُ برُّك أمامك، ومجدُ الربّ يَجمع خيرَك. حينئذٍ تدعو فيُجيب الربّ، تستغيث فيقول ها أنذا”.
إذًا، مع الأنبياء، بدأ الربط بين مساعدة المحتاج وبين تتميم العبادة. أي صارت مساعدة المحتاج جزءًا من العبادة، والعبادة بحدّ ذاتها غير مقبولة عند الله ما لم تكن مرتبطة بخدمة المحتاجين. هذا يذكُره النبي إشعياء أيضًا في نصّ آخر، في أوّل اصحاحٍ من سفره حيث يذكر أنّه يجب أن نهتمّ بالفقراء ونُنصف اليتيم: “اقضُوا لليتيم، أَنصفوا المظلوم، حاموا عن الأرملة، هلمّوا نتحاجج يقول الربّ. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف”. هذا الكلام يذكره النبي إشعياء بعد أن كان وبّخ القومَ على عبادتهم الفخمة التي بدأ الله يشمئزّ منها ويُدير وجهه عنها ويقول لهم “رائحة بخورك أنا أُدير أنفي عنها حتّى لا أشمّها، وأناشيدك هي ممقوتة عندي، وأَصوامك ثقلٌ عليّ”، أي أنّ كلّ العبادة التي يقوم بها الشعب غير مقبولة عند الله لأنّه لا يهتمّ باليتيم والأرملة والفقير والمحتاج. إذًا عندنا تطوّر كبير مع أنبياء العهد القديم في أنّهم بدأوا يُظهرون للشعب المؤمن أنّ المحبّة، عيش محبّة المحتاج والفقير، هي جزء من العبادة، وأنّ العبادة بحدّ ذاتها، سواء كانت صلاة أم صومًا، غير مقبولة ما لم تكن مرتبطة بالمحبّة فعليًّا.
إلى ذلك عندنا، في العهد القديم، حثّ كثير وتوصية بالاهتمام بالمحتاجين وعلى العطاء. سأقرأ قليلاً منها:
سفر دانيال النبي يقول: “كفِّرْ خطاياك بالصدَقة، وآثامَك بالرحمة للبائسين، عسى أن يَطُول أَمانُك”. إذًا هذه هي الفكرة نفسها التي ما تزال حتّى اليوم موجودة عندنا أنّ عمل الخير محسوب عند الله، إذ يُلاحظه، ويعوّض على الذي يفعله بخير أكثر. هناك كثيرون يحبّون أن يُعطوا وأن يقدّموا مساعدات وتبرّعات معتقدين اعتقادًا تامًا، ودافعهم الأساسي لهذا الشيء ليس محبّة المحتاج بقدر ما هو أنّي، إذا أنا أَعطَيتُ، يُباركني الله ويُعطيني أكثر. هذه نظرة يوافق عليها الكتاب المقدّس ويؤكّدها إلى درجة أنه، في العهد الجديد، يَعتبر آباء الكنيسة أنّ الصدقات ومساعدة المحتاجين تغفر الخطايا.
في سفر يشوع بن سيراخ يقول: “كما أنّ الماء تُطفئ النار، كذلك الصدَقة تُكفّر الخطايا”.
في المزامير: “طوبى للذي يَنظر إلى المسكين، في يوم الشرّ يُنجّيه الربّ”.
في سفر طوبيا: “الصلاة جيّدة مع الصوم والصدَقة، لأنّ الصدَقة تُنجّي من الموت وتُطهّر من الذنوب”. واضح أنّ الصدقة والعطاء أيضًا يَقيانا من الخطايا التي نحن فيها، ونُكفّر عن خطايانا بواسطتها.
كلمة يشوع بن سيراخ “الصلاة مع الصوم والصدَقة تُكفّر وتُبارك” تُذكّرنا بالموعظة على الجبل التي تكلّم فيها المسيح عن أركان ثلاثة للإيمان المسيحي: الصلاة والصوم والصدَقة.
في العهد الجديد، بدأ مفهوم الأنبياء، الذي ابتدأ في القرن السابع قبل المسيح وظلّ يتطوّر إلى العهد الجديد، بدأ يكتمل، وصارت النظرة مختلفة عن العهد القديم. لم تعُد الثروة في العهد الجديد دليلاً على بركة الله، والفقر دليلاً على لعنة الله، بل صار الفقر مطوَّبًا لأنّه يساعد الإنسان على أن لا يتعلّق ويتقيّد بقيود هذه الدنيا الدنيويّة الكثيرة. إذًا، مع العهد الجديد، صار للفقر بُعد روحيّ: نستطيع أن نستخدم الفقر، إن كنّا فيه، لكي نسمو عن دنيويّات هذا العالم الذي نحيا فيه، ولا نتعلّق بها أكثر. ليس الفقر بحدّ ذاته هو المبارك، ولكن بحسب الإنجيل، إنْ كنّا فقراء نستطيع أن نستخدم فقرنا لكي نسمو روحيًّا، الفقر يساعدنا على أن نسمو روحيًّا. هذه النظرة وصلت مع بعض الآباء مثل القدّيس يوحنّا الذهبي الفم إلى أن يعتبر أنّ الفقر فضيلة مسيحيّة، ويقول إنها فضيلة مهمّة جدًّا ليس الكلّ يقدرون عليها ولا تُعطى للجميع. إذًا ليس الفقر بحدّ ذاته، ولكن طريقة تعاطينا معه تسمح لنا بأن نتقدّم روحيًّا. لم يعد الفقر لعنة من الله، وإن كان العهد الجديد بالمقابل شدّد بكثير من التركيز والتوجيه والوضوح على أنّ الفقر يجب أن يُحارَب، وأنّ الفقير يجب أن يُساعَد، وهذا ما فهمه المسيحيّون الأوائل وظلّوا عليه حتّى اليوم.
تعلمون أنّ المسيحيّة هي الدين الذي برع في حياة المحبّة أكثر من أيّ دين آخر، وأعطت أشخاصًا عظماء جدًّا أَعطَوا حياتهم كلّها من أجل المحبّة ومن أجل الفقير. المسيحيّون هم الذين أسّسوا كلّ ما نُسمّيه اليوم مؤسّسات العمل الانساني. كلّ النظرة إلى قضيّة الإنسان، وكرامة الانسان، وواجب أن يعيش الإنسان بلياقة وكرامة، كلّ هذه المفاهيم والمؤسّسات التي تأسّست عليها أتت من الخلفيّة المسيحيّة الإنجيليّة.
من هنا أن عندنا في العهد الجديد مَثَل الدينويّة الذي قرأناه الأحد الماضي في الكنيسة، والذي يصل فيه المسيح إلى أن يقول إنّي أنا الفقير وأنا الجائع وأنا العطشان وأنا المريض وأنا المسجون وأنا العريان. يُماهي نفسَه مع المحتاجين مماهاة كاملة. ولذلك اعتبَرَ أنّ كلّ عطيّة أو مساعدة تُقدَّم إلى محتاج تُقدَّم إلى شخصه هو. من هنا المفهوم المسيحيّ أنّ الإنسان، عندما يُلاقي محتاجًا، يعتبر أنّه لاقى المسيح، لأنّ “المسيح” يقول: “كلّ ما فعلتُم بأحد هؤلاء الصغار فبي فعلتموه”. وبالمقابل يجب أن ننتبه إلى موضوع مهمّ جدًّا هو: “كلّ ما لم تفعلوه بأحد هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه”. يعني أننا سوف نُدان، ليس فقط على عمل المحبّة الذي عملناه فنأخذ المكافأة، بل أيضًا سوف نُدان ونأخذ العقاب على المحبّة التي كنّا نستطيع أن نُقدّمها ولم نقدّمها. إذًا، مع مثل الدينويّة، وصل موضوع الفقر والفقير في المسيحيّة إلى ذروته، إلى أبعد حدّ، إلى حدّ أنّه صار خدمةً شخصيّة للمسيح.
من هنا، عندنا كلمة جميلة جدًّا لأحد الآباء الكبار: الذهبي الفم، الذي تكلّم كثيرًا عن الفقر والفقراء، يقول على لسان المسيح “لقد بلغكَ عنّي أنّي مُتسربل بالنور كالرداء، لكنّك متى كسوتَ عريانًا أَشعر أنا بالدفء وأنّني تستّرتُ، وتعتقد بأنّي جالس عن يمين أبي في السماوات، ولكنّك متى ذهبت إلى السجن تفتقد المسجونين تراني جالسًا هناك”. يقول أيضًا الذهبي الفم عن العطاء ليحُثّ الناس عليه: “لأنّه فقير أَطعِمْه لتكون قد أَطعمتَ المسيح”. هناك توحيد كامل بين الفقير والمسيح. “إن رأيتَ إنسانًا بائسًا فاذكُر أنّه، وإن كان الظاهر أنّه ليس هو المسيح، إلا أنه هو الذي يسألك ويأخذ منك في زِيِّ ذاك”. وهكذا صارت للفقير مرتبة كبيرة جدًّا عند المسيحيّين لأنّه هو الواسطة التي بها نستطيع أن ندخل إلى ملكوت السماوات. وسنذكر بعض الصفات أو الألقاب التي يطلقها آباء الكنيسة على الفقراء. يقول الذهبي الفم: “يا لِعظَم مرتبة الفقراء لكونهم نظيرَ خِدْرِ الله –الخِدْر هو المخدَع، غرفة الله– والباري تعالى يختفي فيه. فالفقير يمدّ يده متسوّلاً، ولكنّ الله هو الذي يَقبل صدَقتك”. وهكذا صارت المسيحيّة تنظر إلى الفقير على أنّه صاحب كرامة ويجب أن يُحترم، مثله مثل أيّ إنسان آخر غنيّ. ولذلك يقول أيضًا الذهبيّ الفم في هذا المجال أنه إذا كان سيّدُنا أهّل الفقراء أن يشتركوا في مائدته (أي في مائدة الربّ، في الكأس المقدّسة، أي الإفخارستيّا)، فبأيّ حقّ أنت تمنع الفقير من أن يجلس إلى مائدتك إنْ كنت غنيًّا.
القدّيس يوحنّا الرحيم (بطريرك الاسكندريّة في القرن السابع) عندما صار بطريركًا، أرادوا أن يقيموا له احتفالاً، فقال لهم: ادعُوا إلى الاحتفال “أسيادي“. فقالوا له: يا سيّدنا، أنت بطريرك الاسكندريّة، ليس لك أسياد، أنت السيّد على الجميع. فقال لهم: لا. عندي أسياد كُثر. ادعُوا لي أسيادي على عشاء التكريم الذي تريدون أن تقيموه لي. لم يفهموا عليه. ظنّوا أنّه يريد أن يدعو مسؤولي البلد والوجهاء وأصحاب النفوذ. أتى الشماس، وقال له أنّهم يفكّرون أن يَدْعُوا فلانًا وفلانًا… قال له: يا ابني، قلتُ لكم ادعُوا لي أسيادي. أسيادي هم الفقراء. هؤلاء مَن يُدخلونني إلى الملكوت، وهؤلاء من ساوى المسيح نفسه بهم. نحن ليس عندنا سوى سيّد واحد. فكلّ شخص يكون السيّدُ فيه، يصير سيّدًا علينا. ودائمًا كان يقول هذه الكلمة حتّى ارتبطت به.
من هنا أن إكرام الغريب، إكرام المحتاج، إكرام الزائر، إكرام الفقير يُعتبر فضيلة أساسيّة عند المسيحيّين، وفي الرهبنة يُعتبَر تكريمًا مباشرًا للمسيح. من هنا أن الرهبان في الأديرة يهتمّون كثيرًا بفضيلة الضيافة. يستقبلون بوجه باشّ، ويستقبلون كل الناس. ففي الأديرة الأرثوذكسيّة خصوصًا، يزور الناسُ الديرَ، وينامون فيه، وإذا كانوا جائعين يأكلون، ويأخذون حرّيّتهم. لا يشعرون أنّهم في مؤسّسة رسميّة، لأنّ ما في الدير هو تقدمة من الله لكلّ شعب الله. وهكذا جاء هذا التقليد. فيعتنون كثيرًا بقضية الضيافة، وفي كلّ دير هناك صالون كبير مع ملحقاته اسمه “دار الضيافة” (باليونانية “أرخونداريكي”) حيث يحلّ كل نزلاء الدير وينامون فيه.
كان الأنبا بيشوي (وهو القدّيس سيسويي) مرّة صاعدًا إلى الكنيسة. رأى عجوزًا محتاجا مَن يحمله، والإخوة الرهبان يمرّون ولا أحد يهتمّ له، مستعجلين للذهاب إلى الصلاة كي لا يتأخّروا. توقّف هو وحمله على كتفيه. شعر أنّه عجوز خفيف. لكنّه أثناء مشيه، صار يشعر أنّ وزنه أصبح ثقيلاً أكثر فأكثر، حتى أتى وقت لم يعد فيه قادرًا على حمله. عندها فطن وقال له: يا ربّ أنت اتّخذتَ هذا الشكل حتّى أَحملكَ أنا غير المستحقّ؟! فباركه الرب وقال له: أنت استحقّيتَ البركة لأنّك حملتَني، واختفى عنه.
هناك رواية أخرى لآباء البرّيّة تُبيّن مدى أهمّية الاهتمام بالمحتاج والذي يطلب حاجة. يُروى عن قدّيس اسمه بولس كان يصلّي في غرفته. أثناء صلاته ظهر له السيّد له المجد في نوره الإلهيّ ليُعزّيه. فرح قدّيسنا جدًّا بهذه الرؤية وسُرّ جدًّا بها. وفيما هو متهلّل جدًّا، طُرِقَ باب قلاّيته. عرف أنّ محتاجًا يطرق بابه، لأنّه في البرّيّة لا يقصده إلا المحتاجون والجياع. قَطَع صلاته، وقطع رؤية الربّ، وترك الرب في قلاّيته، وقام وفتح الباب وقضى لهذا الطارق حاجته. التهى معه وقتًا لا بأس به. وعندما رجع إلى غرفته، رأى المسيح لا يزال منتظرًا، فسجد أمامه وقال له: عفوك يا ربّ، سامحني لأنّ هذا الإنسان كان في حاجة. فقال له الربّ: طوبى لك يا بولس، لأنّك لو لم تقُم وتفتح له لكنتُ قد تركتُك.
المسيحيّة، إذًا، تعطي كرامةً كبيرة جدًّا للفقير. ولذلك، كلّ الفكر الدنيويّ الذي نتأثّر به، للأسف، من حين إلى آخر، يتكلّم عن العطاء من فوق، والذي يقول إنّنا أعطينا فلانًا ما نقدر عليه، الله يسمحلو، وكأنّنا مُحسِنون له. نعطيه بصدَقة. لا يوجد شيء اسمه صدَقة أو إحسان في المسيحيّة ولا في الإنجيل، لأنّ هذا يعني أنّك تعطي بدون إحساس، أي إنّك عندما تتصدّق أو تُحسن فلأنك نشعر بواجب لكن من دون محبّة مترهّفة تنبع من داخلك. العطاء في المسيحيّة هو عطاء بمحبّة، وإلاّ فليس له قيمة، لأنّك تعطي المسيح نفسه. لا يسعُك أن تُعطي المسيح وأنت جافّ. لا يعني لك شيئًا أن تعطي من دون أن تنظر إلى الشخص ومن دون أيّ اهتمام. للأسف لدينا أحيانًا في المسيحيّة خبرات ليست ناجحة مسيحيًّا. فهناك مجموعات أنشأت جمعيّة أو مؤسّسة خيريّة تعطي بكثير من الإخلاص وبكثير من الصدق، لكنّ الفقراء الذين ينتفعون من خدمتهم لا يحبّونهم بل يكرهونهم، لأنّهم يعطونهم من فوق. ولذلك ترون أحيانًا مَن يضعون هذا المثَل أو القول المأثور “اتّقِ شرّ مَن أحسنتَ إليه” على آرمات صغيرة في الدكاكين. لماذا؟ لأننا نُعطيهم مِن فوق. يعني: صحيح أنهم يأخذون العطيّة المادية التي هم في حاجة إليها ليشتروا دواءًا، أو ليأكلوا، أو ليُعلّموا أولادهم، ولكن العطيّة ليس فيها إحساس محبةٍ، وهي تُذِلُّهم، فيشعرون بالاحتقار وبأنهم مرذولون، فيحصل لديهم ردّ فعلٍ ضدّ الذي يُعطيهم، شعور بالكره. هذا ليس عطاءًا مسيحيًّا. فالمسيحي لا يقدر أن يقول “إتّقِ شرَّ مَن أَحسَنتَ إليه”، لأنّ مَن يُحسن إليه يُحبّه، وبالتالي سيُبادله ذاك الآخر المحبّة أيضًا.
ما هي صور الفقير؟ دعونا نستعرضها في العهد الجديد وعند آباء الكنيسة. أوّل صورة الأولى، أعطانا إياها المسيح، هي صورة السامريّ الصالح: العدوّ الذي صار، بسبب عمل الرحمة، هو القريب. السامريّ كان عدوًّا لليهودي، ولكن، لأنّه أحبّ اليهوديّ المجروح المشرف على الموت وأنقذه، صار هو القريب إليه أكثر من الكاهن اليهوديّ وأكثر من اللاوي خادم الهيكل، أي صار هو قريبه أكثر من رجُل الدين الذي ينتمي إليه، وأكثر من بني شعبه وبني دينه. إذًا، هو العدوّ الذي يصير أقرب الأقرباء لنا. هذه أول صورة.
الصورة الثانية جميلة جدًّا، يقدّمها القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ الذي يقول إن الفقراء هُم العتّالون (الحمّالون) الذين يَخُصُّوننا. يقول إننا كلّنا، عندما ننتقل إلى بيتٍ آخَر، نريد أن ننقُل أثاثنا ومالنا وأغراضنا وأُمورنا الثمينة، فنحتاج إلى حمّالين ينقُلون لنا هذه الأغراض. وعندما ننتقل إلى بيتنا السماويّ، لدينا مَن ينقل لنا كل الأمور الثمينة التي تخُصُّنا، والتي تَلزَمُنا في البيت السماويّ فوق، بدون أن ندفع له أُجرة، وبدون مشقّة، وبدون أن نُوضّب، وبدون أن نتعب، وهؤلاء هُم الفقراء. يقول حرفيًّا: “كيف لا نستيقظ من نومنا وننتبه إلى أنّنا مقيمون في بلاد غريبة (أي الأرض)، وأنّنا عمّا قليل نعود إلى أوطاننا (السماء). ونحن إلى الآن غافلون عن حَمل أموالنا ونَقْل أمتعتنا إليها. فإنّ الذين يعزمون على الانتقال من بلاد الغربة إلى بلادهم يتكلّفون أُجور السفر والانتقال، ويُكابدون أتعابًا كثيرة حتّى يُرسلوا أموالهم سالمةً. فما بالُنا نُصادف هنا الذين ينقلون أموالنا بلا تعب ولا مشقّة ولا أُجرة ولا زاد ويُرسلونها إلى منازلنا سالمةً من خطر الطريق، ومع ذلك نردّهم خائبين؟ إنهم الفقراء”.
صورة أُخرى أيضًا من الصور المعروفة والمنتشرة عند المسيحيين أن “الفقراء هم الشفعاء“، هم يتشفعون بالذي يُساعدهم. وبالتالي عندما نعمل عملَ رحمةٍ، فنحن نربح شفيعًا لنا. وتلاحظون كثيرًا كيف أنّ الفقراء يَدْعُون للذي يعطيهم: “الله يوفّقك”، “الله يعطيك العافية”، “الله يُنجّح أولادك”… هذه الدعوات هامّة جدًّا لأنّها صادرة من قلب مجروح ومن قلب صادق. فعندما نعطي، نكون نحن الرابحين. لذلك فالكتاب المقدّس يقول: “مغبوطٌ العطاء أكثر من الأخذ”. فالعطاء يحتوي على الفرح، ومَن يعتاد على هذا الفرح لا يعود يشبع منه، بل يستلذّ بأن يُعطي، لا بأن يأخذ، بعكس ثقافتنا الحاليّة التي تقوم على التملّك وعلى الأخذ. إذًا، “مَن يحبّ الفقراء، يقول الذهبيّ الفمّ، يكون كمَن له شفيع في بيت الحاكم. مَن يفتح بابه للمعوزين يمسك بيده مفتاح باب الله. مَن يُقرض الذين يسألونه يكافئه سيّد الكلّ”.
الفقراء هم أيضًا مثال حيّ لنا، وفي هذا المجال هم وُعّاظنا. نحن نتكلّم كثيرًا عبر الوعظ عن فناء هذه الدنيا، وعن أنّها لن تدوم لأحد، وفي أيّ وقت نحن معرّضون لأن نمرض أو نتأذّى أو نقع في مشكلة أو يحصل لنا حادث. لماذا نَعظُ هكذا؟ نعظ هكذا لأنّنا نريد أن نحرّر المؤمنين من الواقع المادّيّ الذي يعيشون فيه، والذي يشدّهم إلى الأمور الدنيويّة والمعيشيّة فحسب. فالكنيسة من واجبها أن توقظ الناس وتفتح لهم عيونهم على الناحية الثانية من الحياة. الحياة ليست أمورًا دنيويّة فقط، بل لدينا ملكوت سماويّ نريد أن نَعيشه، وهو حياتنا الأبديّة. يجب أن نعي فنائيّة هذه الدنيا حتّى لا نتعلّق بها كثيرًا. بعض آباء الكنيسة أيضًا يقولون: صحيح أنّ الوعّاظ يتكلّمون هذا الكلام، لكنّ الفقير يُريك إيّاه حقيقةً، يريك إيّاه في الواقع. وبالتالي هم وُعّاظ حقيقيّون أمامكم، وأمثلة حيّة تُريكم ما يقول لكم الكتاب المقدّس ألاّ تتعلّقوا به، و”لنطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ حتّى نستقبل ملِكَ الكلّ”.
النظرة المسيحيّة، إذًا، تصل إلى حدّ الاعتبار أن الفقير هو المفضَّل على الغنيّ، لأنّه بفضل مساعدته يكتسب الغنيّ بركة، تُغفر له خطاياه، يصير رقيق الشعور، يخلُص، وبالتالي يدخل إلى الملكوت. فمَن الذي استفاد؟ الذي دفع قليلاً من المال، أم الذي ربح نعمة الله وبركته؟ من هنا أن العطاء في المفهوم المسيحيّ هو عطاء من تحت وليس من فوق. ليس فيه أيّ فضل. فعندما أُعطي، عليّ أن أكون مقتنعًا تمامًا أنّ الشخص الذي أُعطيه هو الذي يخدمني ولستُ أنا الذي أَخدمه. تمامًا بعكس النظرة الاجتماعيّة السائدة عندنا. ولذلك من مفاعيل العطاء وخدمة الفقير أنّه يُعتقنا من الدينونة. يقول الكتاب المقدّس: “كفِّر خطاياك بالصدَقة وأُذناك بالرحمة للبائسين عسى أن يطول أَمانُك”. ويقول أيضًا: “مَن يُعطي الفقير لا يحتاج، ولـمَن يحجب عنه عينيه لعنات كثيرة” (سفر الأمثال).
الصدقة أو العطاء أيضًا يجعلاننا نتشبّه بالله، لأنّ الله أَعطى ذاته، وليس فقط خيرات خليقته للبشر. أعطى ذاته للبشر، ومات من أجلهم على الصليب. وبالتالي عندما نعطي، وبخاصّة عندما نُعطي من حاجتنا، من إعوازنا، وليس من فضلاتنا، فنحن نتشبّه بالله. ولذلك يقول الذهبيّ الفمّ: “مَن يرحم مسكينًا يُقرض الربَّ”، وهذا الدَين يوفيه لنا الرب في اليوم الأخير. إذًا، كلّ عطاء هو دين لله حتّى يُعيده لنا في اليوم الأخير. ولذلك لا يقول “مَن يرحم مسكينًا يرحمه الرب أو يباركه الرب”، بل يقول إنّه “يُقرض الربّ” لأنه سيُعيد القرض في الوقت المناسب.
أوغسطين المغبوط يقول: “بأيّ وجهٍ تطلب إلى سيّدك يا مَن لا تستجيب لـمَن هو مساوٍ لك؟”. الفقير مُساوٍ لكَ. هو إنسان مثلك، يطلب منك وأنت لا تستجيب له، في حين أنك أنت تقف وتطلب إلى الله أن يباركك ويعطيك، وأنت لستَ مثل الله. أنت تطلب إلى سيّدك، تتطاول، ومَن هو مثلك لا تعطيه. من هنا، وبالروحيّة المسيحيّة، يقول لنا الإنجيل: “مَن طلب منك فلا ترُدّه”، أي لا تقُل له “لأ”. والكثيرون اليوم يرَون ذلك صعبًا، فنقول: “هذا لا يستحقّ، إنّه كذّاب، نعرفه”. سأروي لكم خبرة الأب الياس (مرقس) الذي رقد الأسبوع الماضي: مرةً كنا في الدير عنده، وحضر إلى الدير إنسان معروف عنه أنه نصّاب رسميّ يدور على الأديرة من وقت إل آخر ليأخذ مالاً. نادى أبونا الياس الراهب المسؤول عن الصندوق، وقال له: أَعطِ الرجُلَ كما هي العادة. وبعدما انصرف الرجل، سأله أحد الحاضرين: يا أبونا، هذا نصّاب، وكل شهر يصعد إليكم، وأنتم تعيشون على صدقات الناس. هذا ليس محتاجًا، فلو كان محتاجًا فأعطِه. أجابه أبونا الياس: نحن نعطيه لكي لا نَكْسر كلمة الإنجيل التي تقول: “من طَلب منك فلا ترُدّه”. ولكننا لا نعطيه كثيرًا، بل نعطيه شيئًا بسيطًا، نعطيه أُجرة الطريق، فقد زار الدير وأخذ بركةً، حتى لا “نُطمِّعهُ” لأنه لا يستأهل. إذًا هناك توازُن: “مَن طَلب منك فلا ترُدّه”، لأنه يطلب، والمسيح هو الذي يطلب.
العطاء أيضًا يمنحنا بركات روحية ومادية لأن مقابل هذه البركة الصغيرة التي أَعطيناها، يعطينا الله بركات أكبر. وهنا نتذكّر مَثَل الأرملة التي وَضعت فلسين في الصندوق. قال المسيح لتلاميذه أنها وضعت “أكثر من الكل”. تفاجأ التلاميذ من كلامه طبعا لأنهم رأوا الناس كيف تعطي وتضع ليرات ذهب ومبالغ كبيرة، وقالوا له: يا معلّم كيف تقول هذا؟ هذه لم تضع سوى فلسَين. فقال لهم: هذه بحاجة للفلسَين حتى تُطعم أولادها، ومع ذلك حَرمت نفسها وأولادها، ووضعَتْهُما. فلذلك تقدِمتُها مقبولة عند الله أكثر من الذين وضعوا من فضلاتهم. هذه وَضعَت من إعوازها.
موضوع العطاء مهم جدا على صعيدنا الشخصي. يجب أن ينتبه كل شخص منّا كيف عليه ان يحرم نفسه من شيء من أجل أن يعطيه للآخر، ولو كان لدينا زيادة. عندنا كثير؟ نعطي كثيرًا! ومع ذلك يجب أن ندرّب أنفسنا على أن نحرم أنفسنا من شيءٍ ما لنعطيه للآخر لأن ذلك يفيدنا نحن، يحرّرنا من الداخل، من كل الرباطات التي نحن متعلّقون بها. وهذه خبرة مهمة جدا. وفي الصوم عندنا مجال مهمّ ومساعد جدا حتى نعيشها. الصوم في مفهومنا المسيحي، الأرثوذكسي على الأقل، ليس هو استبدال نوع طعام بنوع آخر فقط –هو هكذا، ولكن ليس فقط هكذا لئلا يصبح مجرد ريجيم–. هو استبدال نوع طعام عالي السعرات الحرارية، غالٍ، مُكلف، يستغرق تحضيره وقتًا أطول… بطعام سعراته الحرارية أقل، حتى يبقى جسدنا نشيطًا ويقظًا من أجل الصلاة، رخيص حتى نقدر أن نوفّر ثمن الطعام الغالي ونضعه للفقير، وفي الوقت نفسه لايأخذ تحضيره وقتا طويلا حتى يكون عندنا وقتٌ لأعمال الخير والمحبة والصلاة التي نُكثّفها أكثر خلال الصوم. اذًا بواسطة الطعام نحن نصوم، ولكن لا نصوم فقط بالطعام. من هنا أن مناخ الصوم يفترض أن نعيش ببساطة، أن نعيش بشيء من التقشّف، كل إنسان حسب مستواه وحسب مكانته وحسب وظيفته وحسب عمله وحسب موقعه في العائلة. هناك شيء من التقشّف أرسمه أنا لِذاتي في الصوم. هذا التقشف يساعدني على أن أُعطي من راحتي ومن إعوازي للآخر حتى أَتحرر، وفي الوقت نفسه حتى آخذ بركة أكبر. ولذلك، فالذي يقود السيارة كثيرًا ويذهب “مشاوير” كثيرة، يخفّف “مشاويره”. السيدة التي تضع “ماكياج” كثيرًا، تُخفّف من “ماكياجها”. مَن يقصد السينما كثيرًا، يخفّف من السينما. هناك مناخ صياميّ هو رياضة روحيّة لمدّة 40 / 50 يومًا. وهذه الرياضة الروحيّة يجب أن أَعيشها في جوّها الكامل. لا أعيشها كما أَعيش باقي الأيام، وإلاّ أَخسر الصوم كليًّا، وأَخسر مفعوله، ولا أتمتّع بمناخه أو أستفيد منه، بل يقتصر على مجرّد استبدال طعام بطعام. ولكي نتندّر قليلاً، أروي لكم هذا: تعلمون أن ثمار البحر مسموح تناوُلُها في الصوم لأن ليس فيها دم على ما يقولون في قانون الكنيسة. يقول البعض: طالما أننا لا نقدر أن نأكل لحمًا، فلسوف تأكل قريدسًا. هؤلاء يضربون الصوم في قلبه!
تراث الكنيسة في العطاء، وخصوصًا في فترة الصوم، تراث قديم جدا من القرن الأول. هناك بعض الشهادات التي كانت المسيحية من القرن الثاني تعيشها وتُحقّقها في مجال العطاء:
يذكر القدّيس يوستينوس (القرن الثاني) في دفاعه عن المسيحيّين: “نحن -المسيحيّين- الذين أَحببنا طُرُق اكتساب الأموال والحصول على الممتلكات فوق أيّ شيء آخر كبشر، نقدّم الآن لصندوق الشركة (الذي للكنيسة) ما نملك، ونُشارك به مع كلّ شخص محتاج”. إذًا كان هناك صندوق رسميّ منذ القرن الثاني في الكنيسة، وهو ما نسمّيه اليوم في بعض الرعايا “صندوق محبّة”، “صندوق الفقير”. وفي دفاع آخَر يقول: “لقد توجّهَ اهتمامُنا للمنبوذ والمهمَل. وأصبحت محبّتُنا العمليّة هي العلاقة المميّزة لنا أمام العدوّ (أي الوثنيّ)… انظرْ ما يقول الوثنيّون عنّا. يقولون: كيف يحبّون بعضُهم بعضًا، وكيف هم على استعداد للتضحية بحياتهم بعضهم من أجل بعض”. لذلك يُعتبر المال والغنى لدى المسيحيّين، وبخاصّة عند آباء الكنيسة الكبار، نعمةً من حيث إنّه يسمح لمالكه بأن يعطي ويعمل أعمال رحمة ويساعد كثيرًا. وتغيّر مفهوم المال والغنى، من أن يكون بركةً من الله نستحقّها، إلى أن يصير نعمةً يعطيني إيّاها الله لكي بواسطتها أنال بركات كثيرة. كيف أنال البركات؟ عندما أُعطيها، وليس عندما أخزّنها. لذلك فالتقليد (التراث) المسيحيّ ينظر إلى الغنى على أنه وكالة وليس مُلكًا شخصيًّا. المسيح قال: “إنّه أسهلُ على الجمَل الدخول من خرم الإبرة من أن يدخُل الغنيّ إلى ملكوت السموات”، فيسأله تلاميذه: “مَن يستطيع أن يخلُص إذًا؟”. فيجيبهم بالقول: “عند الناس ليس مستطاعًا، وأما عند الله فكلّ شيء مستطاعٌ”. آباء الكنيسة يشرحون هذا القول بأن الغنى هو سبيل، واسطة، أسلوب، طريقة، إمكانيّة لكي ننال الرحمة الإلهية عندما نوزّعه ونعطيه للمحتاجين، لأنّي بقدر ما أُعطي آخذ بركة. فإذا كنتُ غنيًّا، وإذا كان عندي إمكانيّة كبيرة، فأنا آخذ بركات أكثر بقدر ما أعطي من هذا الغنى. ولذلك يُعتبر الغنى أو المال وكالةً وكّلني الله بها لكي أُوَزّعها لأبنائه المناسبين والمحتاجين، وهي ليست شيئًا لي. وهذه هي النظرة اللاهوتيّة العميقة.
يقول القدّيس كبريانوس: “المُلكيّة وكالة، والأغنياء وكلاء لها، وعليهم أن يُسايروا (أي يشابهوا) إحسان الله وكرَمه في مشاركة الأشياء المادّيّة مع جيرانهم حتّى يكون طعامٌ للجميع، وحتّى تكون الأرض مُلكًا مشتركًا للجميع”.
يقول الذهبيّ الفمّ: “أولئك الذين أُهاجمهم ليسوا الأغنياء إنّما أولئك الذين يُسيئون استخدام ثروتهم، فالثروة شيء واشتهاء مال الغير شيء آخر”. يمكن أن تكون لديك ثروة تستخدمها في أعمال المحبّة، ويمكن أن تكون لديك ثروة وتُخزّنها.
يقول القدّيس أمبروسيوس: “الصدقة من جانب البخيل ليست إلا مجرّد استعادة لأشياء مسروقة”. يعني ذلك أنّني عندما أعطي شخصًا محتاجًا رغيفًا إنّما أكون أُعيدُ إليه الرغيف الذي سرقتُه منه.
الأسبوع الماضي، حصلتْ خبرة صغيرة أُخبركم إياها: كنا في رحلة في الإمارات العربية في دبي مع الرعية. هناك سيدة أعرفها من زمان، منذ أن كنتُ كاهنًا، زوجُها أحواله جيّدة جدًّا، كريم كثيرًا عليها، ولكنه ظالمها وهاملها كليًّا، وعنده صاحبات عليها. طبيعيّ أن امرأةً بهذا الوضع ليست سهلة. هذه تشارك في كل رحلة تُقيمها أية كنيسة لأنها بحاجة إلى أن تخرج. زوجها يعطيها أموالاً، وهي تصرف. تعوّض عن فقدان زوجها بالشراء. ففي علم النفس، التسوُّق (الشوبينغ) هو تعويض. كانت في “مول” مع رفيقتها التي تتألم لوضعها وتسألني كيف نساعدها. رأت “جزدانًا”، فقالت لرفيقتَها: أليس جميلاً؟ هل أشتريه؟ أجابتها رفيقتها: من حيث الجمال، هو جميل، فإن أَردتِهِ فاشتريه. قالت السيدة: “والله لا أعرف، لأن عندي 4 خزائن مليانة “جزادين”، فماذا أفعل به؟”. وفي النهاية، عادت واشترته. واضحٌ أن هذه لا تشتري لكونها في حاجةٍ، بل لكي تشعر بأنها موجودة. هذا مَثَل صارخ! ولكن هناك الكثير منه اليوم! فلماذا يكون لديّ أغراض بهذا المقدار؟ ماذا أفعل بها؟
سُئلتْ إحدى المذيعات المشهورات، في مقابلةٍ تلفزيونية أُجريت معها، عن بيتها الذي في الجبل والذي أُصيب بالقصف خلال الحرب واحترق. سُئلتْ: ما هو الشيء الذي لم تستطيعي أن تُنقذيه من البيت وحزنْتِ عليه؟ أجابت: “كان عندي 300 “سكربينة”، وقد حزنتُ عليها لأني أَجمعها منذ سنين، ولكنها احترقت في لحظة”. هذا أيضًا مَثَلٌ صارخٌ!
ولكن، على مستوانا الشخصي، على كل واحد منا أن يُفكّر: كم عندي من أشياء لستُ بحاجةٍ إليها؟ ومرّات كثيرة، أعود وأُكدّس! وهكذا أقدر أن أرى أشياء كثيرة سرقتُها من الذين ليس عندهم إياها!
قد يكون قول القديس أمبروسيوس قاسيًا جدًّا. لكن في الواقع جيّد أن يعيش الإنسان كما يصلّي: خبزنا الجوهريّ أَعطنا اليوم. هذه نصلّيها كل يوم، غير أنّنا للأسف لا نعمل بموجب هذه الصلاة على مستوانا، في حياتنا، ولا نطبقها عمليًّا. هناك أشياء كثيرة لا تَلزَمنا ونقدر أن نعيش بدونها، ومع الوقت تَبلى في خزائننا من “الضَبّ” ولا نستفيد منها.
أُنهي ببعض الخبرات التي تساعدنا في تنمية حب الفقير في داخلنا، وفي نفس الوقت تُساعدنا على أن نُعطي كمّيّة أكثر للفقير، دون أن نتعب أو نشعر بأننا مُجهَدون بهذا العطاء.
الصوم قادِم. ومفيدٌ كثيرًا هذا الأحد لكل سيدةٍ منكم -وهذا أفعله أنا أيضًا، وأتكلّم به مع رعيتي- أن تضع “قجّة” إسمها “قجّة الصوم“، تضعها في غرفتها في مكان بارز وليس مخفيًّا حتى تبقى أمامها، وتضع فيها ثمن ما تقدر أن توفّره من أشياء تريد أن تعفّ عنها في الصوم، وفي آخر الصوم تعطيها إلى فقير. لقد حصلت معنا خبرة جميلة جدًا سنة 1992: قلتُ لأهل الرعية إن الصوم آتٍ، والصوم عطاء، وأتمنى أن تعملوا “قجّة الصوم”، وعندما يَحِلُّ يوم الجمعة العظيم، في صلاة إنزال المصلوب (صباحًا)، تضعون كل هذه “القجج”، وستجمعها لجنة من الكنيسة وتُخبركم بما ستفعله بها حصرًا من أجل مساعدة الفقراء. وإذا كان عندكم أحد تريدون مساعدته، فلستُم مجبَرين أن تأتوا بها إلى الكنيسة. دخل ولد عمره 9 سنين إلى الهيكل يوم سبت النور، وهو حامل علبة قميص كرتونيّة ثقيلة جدًّا بالنسبة إلى ولدٍ بعمره، وقال لي: يا أبونا، أنا جمعتٌ “قجة الصوم” ولم أَقدر أن أُحضرها البارحة. قلتُ له: سلّمها إلى السيدة التي على الوكالة. بعد الصلاة، أتت السيدة وقالت لي: هل تعلم ما كان في قجّة فادي؟ قلتُ: لا. قالت: فيها 550 ليرة سورية، أي ما مقداره 30% من معاش مهندس في تلك السنة، وكلّها ليرات معدنيّة، وهذا يعني أنه وفّرها من مصروفه اليوميّ. واليوم صار فادي مهندسًا، وحتى اليوم يقول لي: أنا لا أقدر أن أصوم إذا لم تكُن القجّة معي.
إذًا، نحن نربّي أنفسنا بأشياء عمليّة وبسيطة جدًّا. فلا يقعَنَّ أحد في هذا الفخّ الشيطانيّ، ولا يقولَنّ: أنا محدود الإمكانيّة ولا أقدر أن أعمل شيئًا. كلّنا نقدر أن نُقدّم شيئًا مهما كان قليلاً، فعندما يُجمَع مع بعضه يُصبح كثيرًا، والله يُبارك كثيرًا. يجب فقط أن يكون عندنا اتّكالٌ حقيقيّ بأن الله هو الذي يباركنا، والله هو الذي يُعطينا الخير الذي نحتاجه. فلا نخافَنَّ من شيء.
سأختُم بهاتين القصّتين من التراث الروسيّ:
البارحة كان عيد القديس كاسيانوس الروميّ (عيده في 29 شباط، ولكننا نعيّد له 3 سنوات مع القديس الذي في 28 شباط، وفي السنة الرابعة، أي السنة الكبيس، نعيّد له وحده يوم 29 شباط). هناك قصّة روسيّة شعبيّة معبّرة وتحمل تعليمًا. في أحد أيام الشتاء المثلجة القاسية في روسيا، طلب مار نقولا ومار كاسيان إذنًا من الرب لكي ينزلوا من السماء ويرَوا كيف يعيش الناس. أعطاهما الله الإذن بشرط أن يعودا قبل الغروب. ترك القديسان السماء. وإذ هما في الجوّ، صارا ينظران الناس تحتهما. كانت هناك قرية موحلة فقيرة يسقط عليها مطر كثير والثلج يذوب. رأَيا رجلاً غرقتْ عرَبته في الوحل، وأَعمًى أضاع الطريق وليس مَن يرشده، وأرملةً تأخذ طفلها المريض إلى الطبيب، وأولادًا تعثّروا ووسّخوا ثيابهم ولا من يساعدهم على تنظيفها. لم يتحمّل مار نقولا المنظر، فشمّر ثوبه الأبيض، ونزل يساعد الرجل الذي غرقت عربته، وقاد الأعمى إلى منزله، وشفى ابن الأرملة المريض… وقضى كل النهار وهو يخدم كل هؤلاء المساكين. في هذا الوقت، كان مار كاسيان لا يزال في الجو يناديه قائلاً: يا نيقولاوس، تأخّرنا؛ يا نيقولاوس، سوف يُعاقبنا الله؛ يا نيقولاوس، أَسرِع لننطلق. ونيقولاوس يجيب: لم أنتهِ بعد؛ لم أنتهِ بعد. ولم يترُك الأرض حتى كان قد أنهى كل خدمته ولم يعُد هناك أي شخص بحاجة إلى مساعدة. وصل القديسان من جديد إلى السماء، وكان في انظارهما ملاكٌ أَبلَغَهما أن يدخُلا بسرعة لأن الله يسأل عنهما. ركضا إلى الداخل دون أن يستطيع مار نقولا أن يُنظّف ثوبه الذي اتّسخ. سألهما الله: لماذا تأخّرتما على الرغم من أننا اتفقنا أن تعودا قبل الغروب؟ وتطلّع الله إلى ثوب مار نقولا، وسأله: لماذا ثوبك الأبيض صار كلّه موحلاً متّسخًا؟ أجاب مار نقولا: عُذرًا يا الله، فهذا هو سبب تأخّري… وهكذا حصل معي. إبتسم الرب، ثم نظر إلى مار كاسيان، وسأله: وأنت ماذا كنت تعمل؟ أجاب: كنتُ واقفًا في الجوّ لئلاّ أوسّخ ثوبي، وأُذَكّرُ مار نقولا بألاّ يتأخر. فقال الله لمار نقولا: لأنكَ مُحبّ، سيكون لك عيدان في السنة (6 كانون الأول، و9 أيار). ثم قال لمار كاسيان: لأنك تصرّفتَ هكذا، ولم يكن عندك محبّة، فسيكون عيدُك كل 4 سنين مرّة!
هناك قصّة شعبية روسيّة أُخرى تتكلّم عن امرأة عجوز بخيلة جدًّا، لم تعمل في حياتها عمل خيرٍ إلا مرّة واحدة حين قصدَتْها شحّادةٌ فقيرة وجائعة استمرّت في طرق بابها تُلحّ في طلب المساعدة. وقتَها، لكي تتخلّص منها، أَعطتها العجوزُ بصلةً، مدّعيةً أنه ليس لديها سواها، وصرفَتْها. وحين توفّيت العجوز البخيلة، انتقلت إلى السماء. فلمّا رآها ملاكُها الحارس ورجلاها غارقتان في النار، قال لها: ماذا أقول لكِ؟ ليس لديكِ أيّ عمل صالح لأُصعِدكِ به من النار إلى الجنّة، ولذلك لا أَقدر أن أُساعدكِ وأُصعِدَكِ. فذكّره الملاك الواقف إلى جانبه، والحامل ميزان المحاسبة، بقوله: تذكّر! لا يُعقَل أنها لم تصنع خيرًا في حياتها! ثم سألها: ألا تذكُرين عملَ خيرٍ واحدًا عمِلتِهِ؟ أجابته: بلى، مرّةً أَعطيتُ بصلةً إلى شحّادة. قال الملاك: حسنًا. خُذ، هذه بصلة، ودَعْها تتمسّك بها، ثم أصعِدْها. دلّى ملاكُها الحارس البصلة، فتمسّكت بها جيّدًا، وراح يرفعها ببطءٍ شديد. ثم إن رجُلاً كان مغمورًا كله بالنار تحت المرأة، هذا، لمّا رآها تَصعَد من النار، قفز بدوره وتمسّكَ برجليها علّهُ يَصعد معها. خافت المرأة ألاّ تحتمل البصلة كل هذا الوزن، فبدأت “تُلبّط” وتقول له: اترُكني أَصعد وحدي، فهذه البصلة بصلتي. وعندما راحت “تُلبّط” غير راغبةٍ في أن ترفعه معها، تمزّقت البصلة فسقطت المرأة من جديد في النار. هذه أيضًا قصّة تُعبّر عن أهمية المحبة في خلاصنا!
إذًا، خلاصُنا مرتبط بعيش المحبّة. ولذلك يقول لنا يوحنا الإنجيليّ، ويعقوب الرسول: “لا تكن محبّتكم بالكلام بل بالعمل وحده”. صومًا مباركًا!