جاء في بداية القراءة الإنجيلية: “في ذلك الزمان دنا إلى يسوع إنسان وسجد له قائلاً يا معلم قد أتيتك بابني به روح أبكم”.
نعلم أن آدم عندما رأى امرأته للمرّة الأولى قال كلاماً طيباً يصل حدَّ الشعر ويرقى إلى الأحاديث المشتهاة والمبتغاة ولم يقل في يوم من الأيام ما هو أركز وأمتن عبارة منه، هذا عندما كان آدم مملوءاً من النعم الإلهية ولم يكن قد انفصل عن حضرة الله كما يدلنا الكتاب ويوضح لنا حول العلاقة بين الله والأبوين الأوّلين ولكن عندما تداخلته الكبرياء وتمركز في فكره حول ذاته أي عندما حاول أن يصير هو إلهاً بدون الله، تغيّر حديثه واختلفت مشاعره وتبدّلت نحو الأسوأ حتى أنه لم يجد كلمة واحدة يبرر بها ذاته ويظهر تواضعه كما كان في السابق ينطق كشريك. أي توقف لسانه عن النطق بالخير والمحبة والبركة فصار بالتالي أبكم من هذه الناحية.
نعم إن الولد كان مصاباً بشيطان الخرس. ولكن هل الخرس هو عدم النطق فقط أم أي باب من أبواب الكلام يُغلق يعتبر خرساً، مرّات كثيرة يقف الإنسان أمام وضع معيّن لا يستطيع أن يجيب أو يصف أو يحتج “صرت كإنسان لا كلام له ولا في فمه احتجاج” كما نقول في مزمور السحريّة عند ذلك نقول له ما لك (خرست).
فالخطيئة التي تحدَّث عنها القديس يوحنا السلّمي الذي نعيّد له اليوم عقيمة ترى في مبادئها ذات معاني كثيرة ولكن عندما تتغلغل في الإنسان وتسود عليه لا يعود بإمكانه الحديث لأنها لا تجرّده فقط من العطايا والنعم الروحية بل تجرّده من ملكاته الفكريّة. هذا عكس الفضيلة والعيش مع الله، إذ الفضيلة تُغني فكر الإنسان، فَوَصَفَ الآباء الحياة الروحية ومحبة الفضيلة علم العلوم.
لم يكن أنطونيوس متعلّماً مع هذا كان الناس يُسارعون ليسمعوا كلمات النعمة الخارجة من فمه ويطلبون منه كلمة منفعة. أما الخطيئة فقد تعطي في وقت من الأوقات كلاماً لحاملها ولكن إلى حين، قد تقوده في بداياتها لتأليف كتب ولكنها في النهاية تصل إلى حائط مسدود لأنها تُفقد صاحبها وتجرّده من كل ملكاته إذ أنها تجعله في عجز جسمي وفكري وروحي بينما الفضيلة تجعل الإنسان يتجدد كالنسر وكلما حلّق يتسع أفق ناظريه الروحيين والجسديين وتُرى الأشياء من قبله على حقيقتها وبالتالي لا يكتب كتاباً واحداً بل يُمكنه أن يكتب في الكتاب الواحد كتباً عديدة وعليها كتب أخرى “لأنها لو كُتبت واحدة فواحدة لما ظننت العالم يسع الصحف المكتوبة”.
الجبناء لا يستطيعون الحديث أمام الأقوياء. الخطيئة ترمي الإنسان في مهاوي التخاذل والجبن والتردد. أما حامل الفضيلة فعندما يحين زمن الكلام النافع لا يعود يخشى شيئاً ولا لومة لائم بل يتحدّث بالأمور وبكلّ أريحيّته صادقاً واصفاً الحقيقة معه أو عليه. مصلحاً أو مباركاً لا يهم المهم أن يقال الحق في موقع الحق بلا مواربة ولا تردد.
فإذا كانت الخطيئة تقود الإنسان إلى الموت، فهو أجرتها، وبالتالي إلى الصمت الأبدي فالفضيلة تؤدي إلى رحابة الحياة والحديث النافع. ويشعر الإنسان أنّه مطالب بالكلام “الويل لي إن لم أبشّر” كما ذكر لنا الرسول المصطفى بولس وهكذا فعل الآباء القديسون عبر العصور. لننظر أن الخطيئة تبدأ بالكلام والاحتجاج والثورة بلا معرفة ووعي حول الذات البشرية مستغلّة كل الاستغلال. أما الفضيلة فتبدأ بالصمت والتأمل والهروب للاختلاء بالله كما محبوب المؤمن الأوحد.
ويبقى الإنسان في الصمت حتى يدبّر الله له الطريقة المناسبة ليتكلّم بها. فلا تعود البراري تخفيه ولا الأسوار تُبعد سَيْلَ الناس عنه، وهو يشعر بنار تزداد التهاباً في داخله كلما ازداد في المحبة والقربى من الله. الفضيلة تبدأ بالطاعة وتنتهي بالقيادة المباشرة أو غير المباشرة ولكنها قيادة المحبة واللطف واللين ويتمنى حاملها أن يذوب لأجل الناس كما يذوب الملح في الطعام. أو إذا احتاج الأمر أن يموت عن أحبائه فهذه كلها خبرات تحتاج لمن يعلّمها فيهب الله موهبة الكلام لحاملها كما وهب الرسل القديسين وجعلهم صيادي الناس وأكثر حكمة وإقناعاً من فلاسفة الأمم وربابنة اليهود. الفضيلة تغني من كل النواحي أما الخطيئة فتفقر الإنسان حتى لا يعود واثقاً لا من ذاته ولا من مجتمعه ويصل إلى حدّ كره ذاته والقرف منها فبماذا سيتكلم إذاً! سيصمت. أما صاحب الفضيلة الحر من الرذيلة وقواتها فيصبح غنياً في كل شيء.
أيها الإخوة الأحباء نسأل الله أن يحررنا من سلطان الخطيئة وكل عبوديّة نفسيّة وفكريّة وجسديّة لكي نعي أن الله ألفنا وياؤنا وإذا أدركنا ذلك سيكون لنا لسان الحق الذي سيصف الأشياء بكتب لا أظن أن العالم سيسعها. فتحرروا في الصوم من الخوف والتردد لكي تتحدثوا بالروحيات والكمالات الإلهية فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات وهو لن يدع أي شيطان مهما كان أن يسيطر عليكم. ونعمة الله لتكن معكم جميعاً آمين.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، الصادرة عن كنيسة طرطوس، السنة 14، العدد 12، الأحد 22 آذار2015