أي إنسان هذا حتى استحق أن يموت من أجله ابن الله؟ إنه صورة الله وآيته، صورته التي تشوهت، وآيته التي ادلهمت، وإرادته الخيرة التي هزمت أمام أعدائها: الكبرياء والطمع، وحب المجد والغرور، فانزلقت إلى منحدرات الموت، وصارت ممن جاز عليهم حكم الموت.
إن هذا الإنسان الذي رسمته ريشة المحبة، ليكون ترجيعاً لها في الخلق والإبداع سقط في محبة ذاته، وجعل منها معبوداً نحت تمثاله عقل كسيح، وبصيرة حولاء، وخيال مبتور الجناح، وروح أظلمت بانقطاعها عن مجاري القوة الكبرى التي تغذي الصورة والآية بعصير الإشراق والانفتاح، وترويها بمياه الأزل وتوجه الإرادة في الطريق المستقيم وتجعل من الظلمات خادمة لإرادة أشعلت الليل بعزمها، وتركت الضعف هشيماً يحترق في أتون القوة الظافرة، في أتون الإنسان الصاعد نحو عالم الإشراق.
إن هذا الإنسان الذي غطاه الغبار، ورعت فيه ديدان الشكوك والوساوس، وانفتحت في أعماقه أثلام، وعلقت بإرادته أصداف، وحفرت أخاديد، وتكسرت عظام، وصفرت ريح الموت، وولولت زوابع الفناء، هذا الإنسان الذي ترك الله ليعيش مستقلاً، ليكون إلهاً على الأرض كما يريد هو، لا كما يريد الله، وكما يجب أن يكون، راح يتخبط في ظلمات إرادته، ويدب في عالم بناه من حجارة شكوكه، وطين غروره، وفولاذ طمعه، فصار كلما ازداد ابتعاداً عن الله، زاد شقوة، وكلما طالت غربته، عمق أنينه وحنينه المغمور بلهيب الشوق الكاوي، وكلما حسب أنه قد وثب بفكره وثبة أوصلته إلى المعرفة، كلما أحس بلهيب الشوق الظامي إلى المعرفة يضطرم فيه، وكلما اعتقد أنه أمسك بناصية الحقيقة، كلما وجد أن السراب يتضاعف في الصحراء الواسعة الممتدة أمام باصرتيه، ويتضاعف الوجوم في عقله، ولكن الله الذي يحب صورته، ويحترم مشيئتها، ويقدس حريتها، لا يقبل أن تبقى صورته في هذه الحالة من العذاب الوجودي، إنه يريد أن يخلصها من سقطتها، ويفك عنها أغلالها، ويحررها من ظلماتها ليعيدها إلى مكانتها الأولى مزدانة بثوب الخلاص النير المعجون بدم المحبة الخلاقة المبدعة.
لقد سقط الإنسان بإرادته، ولكي يعود إلى الأحضان الأبوية، إلى الفردوس الملوكي، يحتاج إلى عمل بطولي إلى انقلاب يحدث في أعماقه، في قلبه وإرادته وروحه، إلى انقلاب تتغير فيه الموازين والمقاييس ويصبح الهدف المنشود الاتصال مع الله عن طريق الإعطاء الذاتي الكامل والتجلي الروحي والفكري تجلياً يعيد إلى الصورة صفاءها وإشراقها الأولين، ولكي تتحقق هذه العودة ، لكي يتحقق هذا الانقلاب كان لا بد من يد تعمل مع الإنسان فتمسح الصدأ العالق بالنفس، وتزيح أكداس الظلمات الجاثمة في قرارة الروح، فكانت محبة الله هي هذه اليد المحركة لعالم الإنسان بما تحملته من امتهانات، واضطهادات، وتعييرات وبصاق، وما قامت به من عجائب، وما اجترحته من معجزات، وما سفكت من دم حبها حتى تغسل خطاياه المزمنة السوداء، فانتهت بالصليب، وجعلته قاعدة أساسية لكل خلاص روحي، ورحماً يولد القديسين وأبطال الروح في التاريخ.
لقد غرق الإنسان في الخطيئة وتهشم من سقطته، وانسحق تحت ثقل ما تراكم فوقه من أثقال، فلم يكن بإمكانه أن يخلص نفسه بل كان بحاجة إلى من يخلصه، بحاجة إلى من يعطيه الدواء إلى من يعيد النور إلى بصيرته والتوازن إلى إرادته، والنعمة إلى عقله والإتضاع إلى فكره، وكان ابن الله الوحيد الذي يستطيع أن يعيد لخليقته وخليقة أبيه مكانتها ومنزلتها في الملكوت السماوي بالقضاء على التهشيم والتشويه الحاصلين في الإنسان، المسببين لكل ما في الحياة من مآس إنسانية، والفاتحين باب القبر كنتيجة لعالم الفناء الذي أراد الإنسان أن يناطح به عالم الخلود الذي فقده، وأن يجعل منه عالماً مستقلاً ، يديره عقله الضعيف ويزينه خياله القائم.
كان على الإنسان أن يمر في بوتقة العذاب ليتغلب على قوة الموت الحاصل بالخطيئة، لا لأنه مجبر، بل لأنه معلم وهاد، والمعلم مثال يحتذى وقدوة حية، ولأنه يعرف أن الموت الحاصل بالخطيئة لا يمكن أن يقضى عليه إلا بموت المسببات للموت: حب الذات، المجد، الكبرياء، الطمع، الغرور، الشهوة القتالة، ولكي يقضي على هذه القوى الفنائية، يجب أن تعود للحرية حركتها، وللعقل اتجاهه النير، وللإرادة فعلها المنسجم مع حقيقة وجودها، والغاية من هذا الوجود، وعودة هذه القوى هي قيامة من القبور المفتوحة في اعماق الذات الإنسانية وكان لابد أن يصلب وجود هذه المسببات حتى يتحقق البعث، ويشع النور من المسامير التي دقت جسد الخطيئة، ويطوف نشيد الإنسان المخلص فوق أرجاء الدنيا أملاً ورجاء، وحباً وحرية وانعتاقاً.
ويعلق العنقود البالغ، عنقود الكرمة الحقيقية فوق الصليب الذي نصبته قساوة الإنسان فوق جلجلة خطاياه، ويعصر في دنان الكبرياء حقداً وكراهية ويسحق تحت أقدام الغطرسة تشفياً وانتقاماً لصلف مجروح، فتختنق الكبرياء، وتموت الكراهية، وتنور جماجم المجرمين، وتخضوضر الجلجلة، وتتخمر الأرواح بالرحيق النابع من جنب الإله، ليعمد الكون بالطيب ، ويوحد الإنسان بالإنسان، والإنسان بالله بدمه الكريم الذي تفجر من جنب المحبة قوة للتجديد والانبعاث، قوة حق يسخر الموت بالموت لأنه فوق الموت، ويتضاحك من العذابات لأنه عبر فيها من الموت إلى الحياة، فكانت نشيداً خالداً لحق عبر ظافراً إلى الخلود، والذين يعبرون رحم الموت هم الخالدون وهم القابضون على الحقيقة القائلة للموت لن تكون بعد ما دامت لي محبتي وحريتي، وإرادتي، وقوتي على كسر عودك، وسحق سلطانك تحت أقدام صليب هزأ بالموت فركع الموت صاغراً، وأخفى وجهه خجلاً واستحياء، لا لن تكون لك غلبة، ولن يكون لك سلطان فقوة الحياة فيّ أشد بكثير وأقوى من قوتك وسلطانك، ونوري المنبلج من صليبي أقوى مما تكدسه من ظلمات، لقد غمرنا النور فعبرنا الطريق، وقد تفتحت قبور على الآمال، وتشققت صخور على الرجاء، ولاح أفق جديد لعالم جديد يبتدئ بالغلبة على الموت، وينتهي بالوحدة الكاملة مع الحياة الكاملة الخالدة، عالم بعثته الإرادة ووطدته المحبة، ونشره إيمان هو فوق الموت إيمان يغير وجه الموت، إن التغلب على الموت هو الغاية المقصودة من حياة الإنسان، ولن يكون الإنسان إنساناً إلا بهذا التغلب، ولن تكون الحياة حياة إلا بهذا الانتقال من الموت إلى الحياة، وهكذا تتحقق رسالة الإنسان في الوجود.
المطران الياس (معوّض)
عن “مجلة النور”، سنة 1959، العدد 5، صفحة 132.
(نص الكلمة التي أذاعها سيادة المطران الياس (معوض) متروبوليت حلب وتوابعها في القداس الإلهي من محطة حلب في إثنين الفصح المجيد 1959)