أن تواكب مريضًا في فترة مرضه، وتعيش معه لحظة بلحظةٍ آلامه وأوجاعَه، وتنفعل مع انفعالاته، وتتصوّر مشاعره وتحاول التخفيف عنه، لهي نعمة خاصة يمنحها الله للمريض ولمرافقه. فكيف لو كان المتألّم أقرب الناس إليك وأكثرهم وضوحًا وشفافية؟
” كل ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه”. ما أعظم هذه التجربة وما أبهاها، فهي تزيدنا نضجًا وتبعث فينا الارتياح والرحمة. إن تمَّمناها عن قناعة ومحبة، ترفعنا نحو المسيح الموجوع، المائت والقائم من بين الأموات، فيسكب فينا عُمقًا وسُموًّا.
بالألم نصيرُ كبارًا، وهو ينقي نفوسنا وأجسادنا. ألم يفتدِنا المسيح بالآلام والصليب حين سكب لأجلنا دمه الكريم والثمين؟
حين ترافق المتألم وتشعر بعذابه، وتحيا معه وتراقب هذه الحالة الأولى التي يهبنا إياها الرب لنتطهر من آثامنا، فهي تبعث فينا السلام وتدعونا إلى التسليم المطلق لإرادة الله، والثقة العمياء بحكمته والعيش بمخافته، فنرى السطحيّة في التعلّق بأهواء هذا العالم والتنقيب عن كل ما هو فانٍ وزائل، والجري وراء أنانيتنا وكبريائنا وأطماعنا. “فماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟”. نحن خاسرون لا محالة إن بقينا قابعين في جُبّ قشور هذه الدنيا وملذاتها، “والحاجة إلى واحد” ألا وهو ملكوت الله، في الصدق والمحبة والعطاء والخدمة.
الخدمة:
“من اراد أن يكون فيكم أولاً فليكن للجميع خادمًا”. خدمة المريض هي من أروع الرسائل التي نحملها ونؤديها. من لا يخدم، لا يتذوق لذّة أن يكون مسؤولاً عن رعاية إنسان بحاجة إليه. تكمن هذه اللذّة في احتضان شخصٍ عاجز عن تأمين حاجاته، ليس بمقدوره أن يقوم بأي أمرٍ سوى النظر إليك وأنت قبالته وفي عينيه طفلٌ مُطيع، في مقلتيه وجعٌ يعجز عن وصفه والتعبير عنه، ودموع عالقة تأبى أن تغادر حجرتها لتبوح بما يخالج القلب والعقل والجسد، دموع تعجز عن التفجّر للكشف عن مكنونات أعماقها.
ما أبهى تلك النظرات التي تحمل إشراقة نفسٍ تغتسلُ بأوجاعها لتلقى مخلّصها، نظرات تشعُّ طُهرًا، تتراقص في وجه وضّاح كضوء النهار، ينادي خالقه.
فأين أنت من هذا الألم العظيم؟ قُبالة مريض يذوب أمام عينيك كشمعة في ظلمة الليل، يعيش سلامًا مطلقًا وتحررًا بهجًا من هذا العالم ليصبح بعدها منجذبًا إلى النور الذي لا يُرى. هو يراه، وأنت لا ترى.
أن ترافق مريضًا خطوة خطوة في مراحل مرضه يتطلب منك صبرًا كبيرًا لربما لم تلحظه فيك يومًا، ومحبة نابضة تدفعك إلى الخدمة بكلّ قواك، وفرحًا صارخًا. نعم، إن لم تخدم بفرح، لن تتمكن من مساعدة المريض على تقبّل حالته بإيمانٍ راسخ. فبالإيمان نتخطّى كُلّ الشدائد.
من ثم عليك أن تدرك كم أنك قوي في ضعفك وكم أنك بحاجة لحضور الله في حياتك، كم أنك تعيش بعيدًا عن الرب وكم أن هذا العالم مظلمٌ ومجدُه باطل، وممالكه غاشة، وأرزاقه فانية.
” فالحاجة إلى واحد”.
هذا المريض هو وسيلة لتقديس النفس والجسد، والدعاء إلى الله أن يرحمنا ويهبنا طول الأناة، ويدفعنا إلى اكتساب الصلاة الدائمة وذكر الله وطلب رحمته وإعانتنا على حمل أثقالنا: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم”.
وإن لمسنا الكواكب والنجوم، وصنعنا أدوية تقضي على الأمراض المستعصية، وجمعنا كنوزها في كلّ زاوية وإناء، ولم ندرك حقًا أن خلاصنا الوحيد هو بيسوع المسيح بإنجيله ووصاياه وآلامه وقيامته، فلن نعاين النور الحقيقي ولن نكسب خيرًا بلّ نحن هالكون.
كلارا طانيوس حداد
موقع مطرانية طرابلس والكورة
مرافقة المريض