صلاة مشتركة بين الملائكة والناس
يشكل التسبيح المثلث التقديس احتفال مشترك للسماويين والأرضيين، صلاة مشتركة بين الملائكة والبشر. تتكرر في الواقع، لفظة قدوس ثلاث مرات، وتأتي من التسبيح الملائكي في رؤية النبي أشعيا، وأيضاً من صلاة داود لله ذي الثلاثة الأقانيم، القوي والذي لا يموت. جمعت الكنيسة التسبيح الملائكي ومزمور داود (41.3)، وأضافت الدعاء “ارحمنا“.
أُدخل التسبيح الثالوثي رسمياً في القرن الخامس من قبل الامبراطور ثيودوسيوس الصغير، وذلك خلال دعاء جميع الشعب من أجل انقاذ القسطنطينية من الزلازل. منذ ذلك الحين وبإدخال التسبيح الثالوثي في العبادة، وخاصةً في القداس الإلهي، تدمج الكنيسة المجاهدة صوتها مع الأرواح الخادمة، مع الملائكة والأبرار في تمجيد شامل للأله الثالوثي. وهذا يشكل تصور مسبق للُحمة والمساواة بين الأبرار والملائكة. عدا عن ميزته الدعائية والتمجيدية، ثمة معنى عقائدي ثالوثي لهذا التسبيح، إذ يتطرق إلى الآب والابن والروح القدس وينتهي بإلتماس الرحمة الإلهية للإله المثلث الأقانيم. «كم هي عظيمة مواهب الإله المثلث الأقانيم، يكتب القديس يوحنا الذهبي الفم، إذ يقبل أن يُمجَّد من قِبَل أجناد الملائكة مع أجيال البشر».
قدوس الله:
نعترف بهذه البادئة للتسبيح الثالوثي أنَّ الله الآب هو قدوس بالمطلق، قدوس بطبيعته، مُنزه ومُنفرد بحسب الجوهر وطريقة وجوده. بهذا الإعتراف للقداسة المطلقة لله الآب نبيّن أنَّ الله غريب عن كلّ نقص أخلاقي، فهو يمقت الشر ولا يُحب إلّا الصلاح. أمام هذه القداسة المطلقة لله الآب يشعر الإنسان برهبةٍ وتبجيل فائقين. يتجلى هذا التبجيل عبر الكلمات والأعمال والعبادة. لهذا هو مدعيٌ لأن يلفظ اسم الله برعدة وورع. يقول القديس سيرافيم ساروف: ” أنَّ الله سيُدين كلَّ إنسان استدعى اسمه القدوس مجاناً وطلب منه شيئاً غير ضروري أو حاجةً يستطيع أن يعيش من دونها“.
تتضرع الكنيسة كي يعرفَ الناسُ قداسةَ الله ويسعون إليها. إن إفشين التسبيح المثلث تقديسه مميزٌ، إذ يتلوه الكاهن خلال القداس الألهي عند ترتيل «التريصاجيون» التسبيح الثالوثي. هذا الإفشين الرائع: «أَيُّها الإلهُ القدّوسُ، المُستريحُ في القِدِّيسينَ، المُسَبَّحُ من السيرافيم بِأَصواتٍ ثُلاثيَّةِ التَّقديس، والمُمَجَّدُ مِنَ الشيروبيم، والمَسجودُ لَهُ مِن جَميعِ القُوَّاتِ السَّماويَّة … »، يُشكل بمعنى من المعاني اعترافاً بعدم استحقاقنا بأن نقدم لله التسبيح المثلث تقديسه سويةً مع الملائكة والأبرار. يذكرنا بأحسانات الله غير المحدودة لنا وبصغرنا أمامه أيضاً. يتضرع إلى الله في النهاية لكي يمنحنا الحكمة والفهم، كيما نعبده بورع كل أيام حياتنا.
انسكاب القداسة الألهية:
تنسكب قداسة الله الآب في القديسين، أولاءك المتوشحين بالكشف الإلهي. فقديسونا «العائمون» بالنعمة الإلهية يكشفون بعداً آخر للحياة، حياةً تتخطى كل مشاكل الإنسان. لكن حتى يصل القديسون إلى هذا المستوى، أن يقتدوا بقداسة الله، وصلوا أولاً إلى ما يُسمى في اللغة الكنسية «التأله». هذا التأله هو ليس إلّا الامتلاء من قوى الله غير المخلوقة. وبما إنَّ الله هو مصدر القداسة، فكل من يشتهيها ويسعى إليها بمعونته تعالى، يُرشد إليها. يتمكن القديسون بنجاح أن يعبروا من حياتهم البيولوجية نحو التأله. ينجحون بنقل الاستنارة الإلهية « دون أن يمتلأوا من الألوهة… » بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي. إنَّ الاستنارة مع نعمة الله، اللتين تحلان على الإنسان عبر تركيز الذهن والصلاة، ليستا إلا قوى الله المدركة، على حد تعبير القديس غريغوريوس بالاماس. لكن معرفة الله أيضًا عبر القداسة والقوى غير المخلوقة الأخرى هي معرفةٌ محدودة في الحياة الحاضرة، مقارنةً مع معرفة الله في الأبدية، خلال الحياة الأخرى، حياة الغبطة والسرور.
قدوس القوي:
حسبما ورد في كتاب البيذاليون ” قدوس القوي، يشير إلى الابن، القوي والعظيم، ذراع الآب، الذي به كان كلّ شيء. قدوس بالمعنى الدلالي هو الذي يأتي بعد الله الآب أي الابن. يكتب الرسول بولس في رسالته إلى الكورنثيين: «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً». (1كور1: 30). أي منه – من الآب – أنتم متحدون مع يسوع المسيح، الذي صار وظهر لنا نحن المؤمنين حكمة الله وعدله وتقديسه وخلاصه. لهذا يريدنا أن نسعى إلى قداسته. قداسة الابن وكلمة الآب هذه، أي المسيح المخلص، تنعكس إلينا عبر الكنيسة. فمن الطبيعي إذاً أن يُشكل المسيح مركز الإيمان والحياة الأرثوذكسية. إنَّ مجمل الدور الكنسي السنوي يتبع أحداث حياة المسيح المخلص على الأرض، الميلاد، الختانة، الظهور، التجلي، الآلام، القيامة والصعود. كذلك الحال هي في الدور الأسبوعي الليتورجي الذي يذكرنا بآلامه وموته وقيامته. يكتب الإنجيلي يوحنا البشير : «الكلمة صار بشراً وحلَّ بيننا » (يو1: 14) مما يعني أنه عندما أتى ملئ الزمان تجسّد الكلمة، وصار إنسانًا وأقام بيننا. أجل لقد أعطى للذين قبلوه كمخلصهم وفاديهم النعمة والحق لأن يكونوا أبناء الله. يعطي دائمًا هذا الاستحقاق لأولئك الذين يؤمنون به «فهو مساوٍ لله الآب في الجوهر والعرش، وليس كأله، الذي هو تعبير مرفوض، يشير إلى التشابه ويقود إلى هرطقة آريوس».
قدوس الذي لايموت:
قدوس الذي لا يموت يشير إلى الروح القدس، الأقنوم الثالث للثالوث القدوس المتساوي في الجوهر. يُشكل الروح القدس مصدر الحقيقة. يوحّد الخليقة ويقودنا إلى الخلاص والفداء. فبحسب تعاليم الكنيسة كل الأسرار والأعمال التقديسية تتفعّل بتدخل الأقنوم الثالث للثالوث الأقدس. لهذا تُتمَّم الأسرار باستدعاء الروح القدس وتصير فاعلة بحلول قواه.
يلبث الروح القدس دائمًا في الكنيسة. يأتي على كل مؤمن بالمعمودية والميرون المقدس، كي يشدد إيمانه. له «القدرة» لأن يوجد دائمًا معه ويتوقف عليه إذا أراد أن يصبح «قوةً». كافة أعمال الروح القدس تهدف إلى مكافأة وتقوية إرادة الناس وتأهيلهم على خدمة الله وعبادته «بالروح والحق». يقيم الروح القدس بملئه في كل واحد وكل مكان، بحسب القديس باسيليوس الكبير. وهكذا يستطيع المؤمنون أن يكونوا متحدين مع المسيح ومع بعضهم بعضًا. يتعاضد مخلصنا يسوع المسيح والروح القدس تعاضدًا منسجمًا كي يجعلونا أبناء الآب «بالنعمة» ضمن الكنيسة.
ارحمنا:
استدعاء الثالوث القدوس كي يرحمنا يُشكل ختام التسبيح المثلث تقديسه. بمقولة «ارحمنا»، نطلب أن ترحمنا الألوهية الواحدة الموَّحدة والـمتلازمة. هكذا نُردد إيمان الكنيسة بالإله المثلث الأقانيم الذي هو واحد غير منفصل بالطبيعة أو بالجوهر. يتكلم القديس اريناوس من القرن الثاني عن الابن والروح القدس «كيديّ الله الآب الأثنتين». أراد بهذا التعبير المجازي أن يدل على التعاون المشترك والمنسجم بين الأقانيم الثلاثة للثالوث الأقدس. هكذا وباستنارة الثالوث الأقدس يصبح بمقدور كل إنسان أن يرتفع إلى الشركة مع الآب عبر الابن والروح القدس، كما أورد القديس اريناوس.
باسيليوس سكيذاس )لاهوتي وكاتب(