“قالَ الرّبُّ، متى جاء ابنُ البشرِ في مجدِهِ”…
وهو اليومَ آتينا بمجدِهِ، “ليجلسَ على عرشِ مجدِهِ، وتُجمَعَ إليه كلُّ الأممِ فيميِّزَ بعضَهم من بعضٍ كما يميِّزُ الرّاعي الخرافَ من الجداءِ. ويُقيمُ الخرافَ عن يمينِهِ والجداءَ عن يسارِهِ”…
وعلا النّداءُ: هذا هو الخروفُ المذبوحُ منذ أوّلِ الدّهورِ، منذ الأزلِ، إن كانت هناك آذانٌ للسّمع فليسمعوا… ويأتوا إلى الوقفةِ في حضرتِهِ…
المأساةُ أنّ الخروفَ الإلهَ اليومَ يجلسُ على الكرسيِّ، كرسيِّ مجدِهِ مُرْسِلاً ملائكتَهُ القدّيسين ليأتوا أيضًا بكلِّ من كان، ومن هو من نَفَسِ روحِ الحملِ، ليقفوا برعدةِ الشّوقِ والتّوقِ والحبِّ أمام عرشِ إلهِهم مسلمين أنفسَهم بالكليّةِ له ليحكمَ عليهم… ويتساءلون: أيراضينا اليومَ غافرًا خطايانا؟!…
من هو ذاكَ العبدُ الأمينُ الحكيمُ الّذي لا يخافُ سيّدَهُ وحكمَهُ، ليقفَ إليه أمامَ كلِّ الأجنادِ السّمويّةِ والأرضيّةِ ليُحكمَ عليه، أو ليَحكمَ هو مع إلهِهِ، إن راضاه تصرّفُ حياتِهِ وحفاظُهُ على الكلمةِ، ليصيرَ والإلهَ ديّانًا للعالمِ؟!…
هكذا وقفَ الكونُ، بل كلُّ البشريّةِ الّتي عرفَتِ الحملَ وذاقتْهُ أو حتّى لم يذوقوه والّذين لم يعرفوه، لكن استبقوا في نَفَسِ قلوبِهم وصاياه الّتي عاشوها وما زالوا يعيشونها حتّى من دون أن يسمّوها أو يعرفوا أنّها كلماتُ وأحكامُ الملكِ، بل هي كلُّها وصايا الإلهِ الّذي سمعوا عنه أنّه يحكمُ في قلوبِ ونفوسِ وعقولِ بعضِ ناسِ الأرضِ، وهم لا يخالطون أولئكَ الّذين لم يسمعوا أنّ اسمَهُ “أحدُ الثّالوثِ” الأقنومُ الثّاني، الّذي هو “يسوعُ الممسوحُ من الآبِ” ليحكمَ بأحكامِ الإلهِ الملكِ حتّى لا يتزعزعَ كونُ الله في عمرِهم، في أحكامِ البشريّةِ وفي أسسِ الكونِ…
وصرخَ الحملُ الجالسُ على العرشِ، فارتجّتْ نفوسُ وقلوبُ كلِّ الأممِ الواقفةِ حولَهُ: …”إلهُنا أتفرُزُنا اليومَ؟!. دعْنا نتوبُ عن خطايانا، علّنا نتوبَ… هكذا سُمِعَتْ أصواتُ الصّمتِ وأنفاسُ الملائكةِ والبشرِ الواقفين أمامِ العرشِ الإلهيِّ”…
وزعقَ رئيسُ الملائكةِ… “كفّوا عن الصّراخِ، عن الطّلبِ… عن النّدبِ… كان لكم كلِّكم أن تعرفوا لأنّه هو الإلهُ تكلّمَ، قائلاً: “أنا هو الّذي هو!!!… أنا هو الألفُ والياءُ الّذي كان وهو كائنٌ وسيكونُ إلى الأبدِ”… وأكملَ رئيسُ الملائكةِ… “الإلهُ كَتَبَ الوصايا وأنتم لم تقرأوها… تكلّمَ ولم تسمعوا… وعدتموه مئاتَ، آلافَ، بل ملايينَ المرّاتِ، لكنّكم لم تُحقِّقوا الوعدَ!!… والآن أنتم مُتُّم وها نحن كلُّنا نقفُ قدّامَ عرشِ الإلهِ الوعدِ، لأنّه هو الغفّارُ، الدّيّانُ والعادلُ وحدَهُ”…
اليومَ سقطَتْ كذبةُ الإنسانِ الميتِ الواقفِ أمام الإلهِ… لكنّ الإلهَ الحملَ أكملَ بعدَ رفعِ رأسِهِ مستديرًا إلى الّذين أجلسَهم الملائكةُ عن يمينِهِ هو وقالَ… “تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكَ المُعَدَّ لكم منذُ إنشاءِ العالمِ”…
هكذا عرفَ الإلهُ الحملُ، حملانَهُ الّذين أحبّوا وقعَ كلمتِهِ ووصاياه في آذانِ قلوبِهم: … “لأنّي جِعْتُ فأطعمتموني… عطِشْتُ فسقيتموني… كنتُ غريبًا فآويتموني… عريانًا فكسوتموني… مريضًا فعدتموني… محبوسًا فأتيتم إليّ”… ورفعَ كلُّ الصّديقين رؤوسَهم مستغربين؟!. متى؟!. متى؟! متى؟!… “الحقَّ أقولُ لكم، بما أنّكم فعلتُم ذلك بأحدِ إخوتي هؤلاء الصّغارِ، فبي فعلتموه”…
اليومَ في يومِ الدّينونةِ هذا العظيمِ، نقفُ مسائلين بعضُنا بعضًا… هلْ تُبنا، أو سنتوبُ إلى كلمةِ الحملِ المذبوحِ في كلِّ خدمةٍ ليتورجيّةٍ أمامَنا ونحن نأكلُهُ لنشفى، أم نأكلُهُ لنعودَ إلى خطايانا؟!…
اليومَ تتتالى الوعودُ والأحكامُ تستصرخُ هباءَ كلمةِ الإنسانِ لربِّهِ، حتّى أولئكَ الّذين لبسوا البزَّ والأرجوانَ للدّخولِ إلى معابدِ الإلهِ وكنائسِهِ، والّذين تبتّلوا عن أنفسِهم إلى توقِ معرفتِهِ، للدّخولِ إلى خدرِهِ، بينما كان هو نائمًا يستريحُ من وعودِ البشرِ الكَذَبةِ، المنافقين، اللّعّابين بعواطفِ الّذين يربّونهم للخلاصِ… وكلِّ الّذين تابوا ولم يتوبوا، وكلِّ الّذين عملوا والّذين لم يعملوا؛ والهمُّ الهمُّ الأوحدُ لجميعِ النّاسِ كان: نحن نريدُ أن نحيا معرفتَكَ (سطحيًا) في عمرِنا هذا هنا، وفي اليومِ الأخيرِ، يومِ الموتِ نترجّاكَ بالصّلواتِ المتلوّةِ على أجسادِنا الميتةِ أن تخلّصَنا برحمتِكَ والّذين يجنِّزوننا، علّنا نرى وجهَكَ قبلَ يومِ الدّينونةِ هذا، اليومَ!!…
* * * * * * *
البارحةُ رتّبتِ الكنيسةُ تذكارًا للرّاقدين على رجاءِ القيامةِ والحياةِ الأبديّةِ… فماذا بعدُ؟!…
مخوفٌ هو الوقوعُ بين يدَي الرّبِّ الإلهِ الحيِّ!!.
اليومَ تجتمعُ كلُّ الأجنادِ السّماويّةِ والّذين رقدوا والواقفون أمام عرشِ مجدِ الملكِ ليسمعوا كلمةَ دخولِ الأخدارِ السّماويّةِ أو الانكفاءِ إلى الجحيمِ، حيث العويلُ والبكاءُ وصريفُ الأسنانِ…
هناك تعلو أصواتُ جهنّمَ فرحةً بكلِّ قادمٍ تَرَكَ الإلهَ ملتحقًا بلذّاتِ أكلِهِ وشربِهِ وملبسِهِ وغناه وأهوائِهِ لالتزامِ خطاياه، وكأنّها حقًّا مكتسبٌ له في عمرِهِ مع الّذين لم يسمعوا ليرعووا، أو يفهموا ليغيّروا طُرُقَ سماعِهم وخضوعِهم لإبليسَ وزبانيّتِهِ المتغلغلةِ في كلِّ مفرقِ طريقٍ يحياه الإنسانُ في حياتِهِ… هؤلاء صادفوا إلهَ المالِ والشّهرةِ وحبِّ الظهورِ والتّملُّقِ والتزامِ الخطايا، كأنّ لا آذان لهم للسّمعِ وليس من حسٍّ لهم لتنتفضَ روحُ قلوبِهم ليسمعوا صوتَ الإلهِ مناديهم: “يا بنيَّ أعطني قلبَكَ”!!.
عندَ الموتى اليومَ، كما عندنا نحن الأحياءَ بالجسدِ، نقفُ أمامَ المنبرِ المهيبِ لنسمعَ الصّوتَ صارخًا…
أنا عرَّفتُكُم ذاتي في كلِّ من عاشَ حولَكم في البؤسِ والغنى، في النّجاحِ والفشلِ، في الدّعةِ، في الكبرياءِ، في الصّلفِ، في العنادِ، في البرِّ… وأنتم لم تسمعوا… لماذا؟!… لأنّكم ركّزتم كلَّ حواسِّ أنفسِكم على أفكارِكم… وصاحتِ الأبواقُ: حياةُ القدّيسين ارتُهِنَتْ لكم، لكنّكم كنتم مشغولين وتعامَيْتُم عن أنفسِكم الّتي هي أرواحُكم، الّتي سكبَها الرّبُّ الإلهُ فيكم… قهرتُم إلهَكم… كذبْتُم على مريديكم وبقيتم أنتم تتعاطون الألوهةَ في البحبوحةِ، في أناكم، حتّى لو بقيتم فقراءَ…
ما الفقرُ؟!. ما الغنى؟!… من أين تأتي حياتُكم، أنفاسُ أرواحِكم؟!… اصطليتُم وتلظّيتم في شهواتِ نفوسِكم!!، فقتلْتُم الإلهَ الرّبَّ يسوعَ… كلُّكم صلبتموه على صليبِ رغباتِكم، وما بكيتُم… ما أعولْتُم طالبين التّوبةَ وعيشةَ الفقرِ مع الفقراءِ… وغنى الرّبِّ في فقرِكم لم تتبنّوه!!. واليومَ نحن نرثي باكين مقاصدَنا كلَّها… “بما أنّكم لم تفعلوا ذلك بأحدِ هؤلاءِ الصّغارِ فبي لم تفعلوه”…
“هكذا يذهبُ هؤلاء إلى العذابِ الأبديِّ والصّديقون إلى الحياةِ الأبديّةِ”…
اليومَ في تذكارِ رقادِ كلِّ المائتين في كنيستي والحكمِ على الأحياءِ… اليومَ في مجيءِ ابنِ البشرِ في مجدِهِ وجميعِ الملائكةِ القدّيسين معه، أين نقفُ نحن الّذين يبشّرون بالكلمةِ الإلهِ في حياتِنا؟!.
“لا لنا يا الله، لا لنا، بل لاسمِكَ أعطِ المجدَ”!!!.
البارحةَ، اليومَ، غدًا وإلى دهرِ الدّاهرين… وحتّى انقضاءِ الأيّامِ نحن نحيا معكَ منكَ فيكَ ولكَ…
هذا وعدُ حياتِنا…
آمين… ثمَّ آمين… ثمّ آمين.
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
عن “تأمّلات في الإنجيل”، 6 آذار 2016