من هو يسوع؟ سؤال يتردد على كل لسان ويطرقه كل إنسان مؤمن وغير مؤمن… يسوع هو الخلاص، يسوع هو المحبة والمحبة هي كل شيء هي الكون الكامل والكون الكامل هو المسيح لأنه محبة وبالمحبة قاد البشر إلى الخلاص ولما اتكأ التلميذ الحبيب على صدر المعلم سمع دقات قلبه المحب وما يوحنا المتكئ على صدر المسيح إلا البشرية التي تتكئ كل لحظة على صدر المخلص فتسمع أنغام روحه فلا تفهمها وإذا فهمتها فلا تعمل بها فكأنها ما فهمت ولا أدركت.
لقد لقي يسوع الناصري، الذي يعرفه الإيمان ويقره التاريخ، من رجال الفكر ما لم يلاقه رجل في التاريخ، فالفلسفة اليونانية بماضيها وحاضرها قامت تحاربه والدولة الرومانية بقوتها وجبروتها جربت أن تقضي عليه فلا الفلسفة تمكنت ولا القوة تمكنت من ذلك، ولمعرفة ما لاقاه المعلم الناصري من المعاكسات يكفي أن نلقي النظر على ما حصل من المناقشات بين رجال يسوع وبين الفلاسفة الوثنيين، فأصحاب المعرفة في القرن الثاني والثالث للمسيح مزجوا مع فلسفتهم تعاليم مسيحية بغية تضليل المسيحيين عن معتقدهم وهناك طوائف كثيرة من الفرق الفكرية التي استندت إلى الدين المسيحي في نظرياتها بقصد التأثير على المجاهدين في سبيل هذا الدين الناشئ الهازي بقيمة الفكر وقوة المنطق الفلسفي، دين يرتكز على الإيمان والإيمان صخرته المسيح فلا أعاصير ولا زوابع وعواصف تستطيع أن تؤثر فيه وعليه، لقد تجند الفكر كله واصطف في صف واحد وتجند الإيمان وهو شراذم متفرقة لا يملك غير قوته بعكس الفكر الذي يملك كل مجهود البشر فكانت النتيجة أن دحر الفكر وانتصر الإيمان وإذا بالمملكة السماوية تشق سيرها في أرض قاحلة محدبة فتحرثها وتغير قيم الحياة وتقلبها رأساً على عقب.
ورغم هذا الانتصار فلا يزال الناس يفكرون بأن شخصية المسيح هي أسطورة من الأساطير فهل يعقل أن يسيطر الدين المسيحي على العالم ويموت الألوف في سبيل تحقيق تعاليمه إذا كان كذلك، أيعقل أن ينتصر صيادو السمك على فلاسفة الأجيال ومعلميها وهل من يسلم بأن الإثني عشر رسولاً تمكنوا عن طريق هذه الأسطورة أن يقوضوا أسس أعظم امبراطورية في العالم.
إن إنساناً كهذا هل يمكن أن يكون رجلاً أسطورياً كالخاتم الذي يلبسه أفلاطون لعدالته! وما عدالة أفلاطون إلا وليدة وحي وهي الكلمة التي تجسدت وأظهرت للعالم أن العدالة الكاملة هي مستقرة في التعليم المسيحي والمجتمع السعيد هو المجتمع المبني على أساس الاعتراف بإلوهية المسيح وما ينتج عن هذا للاعتراف من واجبات. فالإيمان يفهمنا من هو يسوع وتعليم المخلص يرفعنا على أجنحة الإيمان وبغير الإيمان لا يمكننا أن ندركه إدراكاً تاماً.
فلينكر من أراد أن ينكر على يسوع ألوهيته فالزمن أقوى من الفكر، والزمن كان ليسوع ويسوع أقوى من الزمن ويسوع ندركه بإيماننا ونفهمه بأرواحنا، وأرواحنا تقول لنا أن يسوع هو الألف والياء، وكل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيسوع الإله تجسد والمحبة هي أساس هذا التجسد والقادر أن يقول للكون كن فيكون ويعطيه نظامه يستطيع أن يصبح إنساناً كاملاً له ما للإنسان من عواطف وميول إلا الخطيئة فهو يميل في حياته كإنسان إلى الملكوت السماوي وكل خطوة كان يخطوها على الأرض كانت بمثابة حجر منحوت لبناء صرح الإنسان الروحي الذي تهدم تحت ثقل مفعول الخطيئة، فالمسيح الإله الذي جمع الإنسانية في قلبه أخذ الجسد الإنساني كدليل واضح على محبته القصوى لها وتفانيه الزائد في سبيل خلاصها فتألم كما تألمت وجاع كما جاعت وعطش وقاسى أهوال الأسفار ونام في البراري والقفار وعذب وامتهن وجرب من الأفكار الخبيثة وهذا ما يجري لكل إنسان، غير أن الإله المتجسد لم يكن ليبالي بكل هذه لأن مملكته من غير هذا العالم وما جاء إلى العالم إلا ليعلم العالم أن موطنه غير هذا العالم، في قلب يسوع المتجسد يدفع الإنسان إلى مملكته السماوية، إن الإيمان يستطيع أن يدرك كل ذلك أما العقل فلا يستطيع لأنه واهن عاجز عن ارتياد العالم السماوي ويسوع الإله في تاريخ حياته ما تكلم عن العقل بل عن حبة الخردل من الإيمان فهي التي تستطيع أن تقول للجبل انتقل فينتقل وما حياة الإله على الأرض إلا تمجيد لهذا الإيمان الذي فينا والذي به نستطيع أن نرى ملكوت الله السرمدي، فمن أراد أن يلج إلى هيكل الألوهة فليعتمد على إيمانه ومتى اعتمد على هذا الإيمان لاح له كل شيء وراء هذا الكون المنظور واضحاً جلياً ونقله إلى قلبه فعاش سعيداً في المسيح ومع المسيح، يقيم العقل جبالاً من الاعتراضات على هذه الألوهية ويشك في هذا الحدث التاريخي حتى إذا انتهى من اعتراضاته وشكوكه وظن نفسه أنه حقق لعقله ما يصبو إليه وانتهت من دائرة تفكيراته السؤالات وشبع رأسه بالجوابات السلبية عاد فرأى أن ألوهية السيد المسيح التي حاربها ويحاربها ازدادت رسوخاً حتى في عقله المتغطرس الذي يعترف في سره بعجزه ويصرح عن ضعفه علانية بقوة جبروته، فالمسيح الإله للعقل كالمخرز للعين والعين لا تقاوم المخرز، لقد قال المسيح الإله أنا هو الطريق والحياة والحق فهل يستطيع العقل أن يقول أنا الحقيقة،أما الإيمان فيستطيع أن يقول ذلك لأن الإيمان هو من المسيح أما العقل فيستطيع أن يقول أن الزعم غير مقبول ولكنه لا يستطيع أن يبرهن ذلك ولا يجسر أن يفعله.
فالإيمان فقط يستطيع أن يقودنا إلى ذلك وبواسطته نستطيع أن نفهم من هو الله، وكيف هو مثلث الأقانيم فالمسيح هو الكون الروحي الذي لا حد له، هو الشمس المشرقة في عالم أرواحنا وتجسده هو الحلول الدائم فينا بطريقة جعلنا أن نلمسها في أيدينا ونراها في أعيننا ونشم عبقها بأنافنا ولكي نلج أكثر إلى هذه الشخصية الإلهية فلنقف على تعليمها السامي ونتذوق لذته ونطير على أجنحتها في الفضاء الذي تتكلم عنه وتدعو إليه.
الأرشمندريت الياس (معوّض)
عن “مجلة النور”، العدد 3، آذار 1948، السنة الرابعة، ص 64.