هكذا وصلَ يوحنّا المعمدانُ اليومَ أوّلاً، بدءًا واقفًا هو واثنانِ من تلاميذِهِ، منتظرًا… وصامتًا عن نطقِ الكلمةِ.
انتظر ونظرَ… رأى يسوعَ ماشيًا… كان يوحنّا على موعدٍ سرّيٍّ معهُ لأنّهُ عرفَهُ في البدءِ، من بطنِ أمِّهِ، الّتي هو تاليًا حَمَلُ إرثِ دمِها والقربى…
كان يوحنّا قريبَ يسوعَ، مولودَهُ، سابِقَهُ، لحمَهُ، دمَهُ في الإلهِ… فإذ نظرَهُ ماشيًا قالَ: “هوذا حملُ الله”!!…
مَنْ أحبَّ مَنْ، قبلُ؟!… يسوعُ أم يوحنّا؟!.
الحبُّ معرفةٌ… والمعرفةُ حسُّ تلقٍّ وإِخلاءِ الذّاتِ من ذاتِها لتستقبلَ الآتيَ… مَنْ الآتي؟!…
روحُ الرّبِّ عليّ… مسحَني لأُبشِّرَ المساكينَ بالرّوحِ!!…
وتكلّمَ يوحنّا وهو مع التّلميذَين… فقط عرَّفَ بثلاثِ كلماتٍ مَنْ الآتي، العابرُ، الماشي، المارُّ أمامَهم… “هوذا حملُ الله”…
يوحنّا كان ينتظرُهُ، في شعبِهِ، منذ جيلٍ وجيل، ويسوعُ كان يعرفُ يوحنّا لا بقرابةِ الجسدِ فقط، لكن بالمعرفةِ الرّوحيّةِ في الله أوّلاً منذ الأزلِ، حيثُ اجتمعا في فكرِ الله أسراريًّا ليصيرَ “السّابقُ” سابقًا معمِّدًا، والآخرُ يسوعُ الأتيَ ليُعمِّدَ البشريّةَ بدمِهِ وماءِ جنبِهِ لخلاصِها!!.
مِنْ هناكَ، يُولدُ كلُّ إنسانٍ مختارٍ!!. السّامعُ اسمَهُ معمَّدًا بالرّوحِ قبلَ نزولِهِ إلى بطنِ أمِّهِ ليصيرَ خليقةً كاملةً، حاملةً لحمَ وعظمَ وروحَ الإلهِ… وإذْ يعرفُ اسمَهُ، يرفعُ الرّأسَ، ناظرًا واعيًا أنّ الصّوتَ مناديهُ هو فيجيبُ الآبَ: “أنا لكَ يا ربُّ علّمني أن أعملَ رضاكَ”!!.
“وإذْ سمعَهُ التّلميذان يتكلّمُ تبعا يسوعَ”!!.
في الحضرةِ… في الخطرةِ… في السّماعِ يصيرُ الكيانُ وَحْدَةً مشدودةً إلى نفسِها الآتيةِ إليها من لدنِ الرّبِّ يسوعَ، ليلقاه فيها إن سمعَ وأجابَ… الآمين!!…
يذكرُ النّصُ أنّ التلميذَين تبعاهُ فقط… لم يسألاهُ شيئًا، لكنّ إشارةَ وخبرَ صوتِ يوحنّا لهما أنّ هذا “هو حملُ الله”… دفعاهُما إليهِ!!.
كلمةُ يوحنّا… عبورُ يسوعَ… تعليمُ الكتبِ أنّهما وُلدا من الإلهِ والانتظارِ المجدي، الباحثِ، الصّامتِ، النّاطقِ، الحاضرِ في نفسَيهما سرًّا… وهو أنّ الحياةَ الّتي لا تُلمسُ ولا يُقبضُ عليها، لكنّها في وعيِ اللاّوعي تبقى موجودةً، حاضرةً ليتوبَ الإنسانُ إلى ربِّهِ كلَّ لحظةٍ بعد تجوالِهِ في سرِّ الضياعِ الّذي يشدّه إليهِ “الشّرّيرُ” السّاكنُ نَفْسَهُ، قلبَهُ والحشا من يوم تبنّى آدمُ الأوّلُ الّذي هو جذرُ الشجرةِ المفرعةِ في أرضِ اللهِ الّذي قالَ عنهُ الإلهُ “الآمينَ” ليحيا!!!.
وكان على الكلمةِ أن تُنطَقَ بعد أن أجابَ آدمُ وحوّاءُ “الحيّةَ الشّيطانَ” بالنّعمِ في الفردوسِ فانقلبَ الفردوسُ عليهما… وإذ خرجا من تحتِ الأنقاضِ… وجدا نفسَيهما عاريَين في الأرضِ الّتي منها أُخذا… وعُرفَتِ الأرضُ بالخطيئةِ!!!. وعُرِفَ الإنسانُ الأوَّلُ، بمولودِ الخطيئةِ ومبدِعِها، لأنّه لم يسمعْ!!… ولمـّا سمعَ لم يُصغِ!!. وإذ عادَ وأصغى لم يفهمْ ما معنى روحِ الأحرفِ!!. “الكلمة”!!…
فَقدَ الإنسانُ المعرفةَ لأنّه فقدَ حبَّ “الكلمةِ”!!… الإلهَ الرّبَّ يسوعَ المسيحَ.
وقالَ الإلهُ للتلميذَين: “ماذا تطلبان؟… فقالا: ربّي”!!.
هكذا عرفَهُ التّلميذان بالرّوحِ القدسِ الّذي نفخَهُ الإلهُ في منخرَيْهما يومَ أولدَهما من بطنِ الأرضِ، من حشا أُمِّهما…
وكان التّفسيرُ واضحًا أنّه هو المعلّمُ… فنادياه “يا معلّمُ أين تمكُثُ؟!… فقالَ لهما تعاليا وانظرا… ومكثا عندَهُ… ذلكَ اليومِ”!!.
لماذا أرادا معرفةَ “بيتِهِ”؟! أين يمكُثُ… لأنّ المنزلَ هو قلبُ الرّوحِ حيثُ فيهِ يولدُ الحبُّ ويتكمّلُ بالسّكنى والأمانِ… لذا صارتْ الكنيسةُ العروسُ بيتَ الله وسُكنى النّورِ والحقِّ.
وصارَ “الكلمةُ” جسدًا وحلَّ بينِنا!!…
ليستْ “الكلمةُ” تفسيرًا!!. إنّها حسُّ الإلهِ الحامِلِها إلى ومن قلبِ السّامعِ، يُحييها بصمتِ الحبِّ في القلبِ…
في حياةِ الإنسانِ بل في حياتِنا كلِّنا على الأرضِ، نحيا في الإزائيّةِ مع يسوعَ… يُولدُنا من روحِهِ، نصيرُهُ بالنِّعمةِ، يصيِّرُنا بالتّجسّدِ… يمرُّ بنا… يشدُّنا بوهجِ نورِ أُلوهتِهِ… هو وحدَهُ الواقفُ “منتظرَنا”… ونحن المارّون أمامَهُ، قطيعُ غنَمِهِ… وهو تاليًا معنا ولنا، الحاملُ مزمارَهُ يزمِّرُ بهِ أمامَنا وبيننا، لنتبعَ شعاعات صوتِهِ… “حبيبي يزمّرُ بمزمارِهِ وأنا أتبعُهُ”…
هذه هي حركةُ الوجودِ النّابعةُ من بطنِ الألوهةِ لكلِّ إنسانٍ مولودٍ من الإلهِ ومعمَّدٍ بنور المعرفةِ أنّ الإلهَ ثالوثٌ والثّالوثَ حبٌّ والحبَّ موجوديّةُ الحياةِ البكرِ.
ولكن لِمَ ما زلنا في الضّياعِ؟! في الشّكِّ؟! في اتّباعِ خطرِ ومقاصدِ ومرامي بليعالَ الّذي منذُ بدءِ آدمَ وحوّاءَ المغروسَين فينا، يحاولُ طردَنا من ملكوتِ مُلْكِ الإلهِ؟! من الحنانِ واليقينِ، من المشاركةِ؟!…
“بليعالُ” يُلهينا!!. عن حقِّ يسوعَ بمظاهرَ عباديّةٍ ليسوعَ!!. صرِْنا نلازمُ الحضارةَ الممنطقةَ بالمعرفةِ العلميّةِ حتّى عن يسوعَ!!. وما عرفْنا بعدُ أنّ يسوعَ ليس عِلْمَ معرفةٍ تُتَعلَّمُ، بل وَجَفُ روحٍ يحملُ في سرِّهِ هذا العشقَ الإلهيَّ الّذي، لا يُقْبَضُ عليه بالمعرفةِ الحسيّةِ أنّنا نحن خدّامٌ عندَ قدمَيهِ ولكلِّ فقيرٍ عابرٍ يستعطي حبَّ يسوعَ حنانًا منّا ليغتذيَ منه… “أحببْ قريبَكَ كنفسِكَ”!!…
“مأسَسْنا” يسوعَ فأضعنا المغارةَ والحيواناتِ الّتي أحبّتْهُ أكثرَ من شعبِهِ الّذي عرّاهُ باصقًا عليه، جالدَهُ ومدمِّيهِ حتّى يُرضيَ بليعالَ وأعوانَهُ!!…
أترَوْن؟!. أترون يا شعبي كيف تكلّسَتْ أعضاؤنا حتّى بتْنا دُمًى خشبيّةً تتحرّكُ بمفاتيحِ الأفعالِ والإنجازاتِ لتسييدِنا على شعبِ الله والفقراءِ، لا على خطيئتِنا؟!!.
“أندراوسُ” المدعوُّ أوّلاً أخذَ أخاهُ بطرسَ ودلّهُ على المسيحِ!!. ونظرَهُ يسوعُ… نظرَ الأخَ مسميًّا إيّاهُ باسمِهِ: أنتَ تُدعى صفا الّذي تفسيرُهُ “بطرس”.
وسقطَ بطرسُ أيضًا في اللاّحبِّ… شكَّ بيسوعَ فأنكرَهُ: “أنا لا أعرفُ الرّجلَ!!. واستكملَ الرّسلُ وكلُّ إنسانٍ بشارتَهم الّتي أوتوها من العُلى على صليبِ الرّبِّ، مدّعين أنّهم لا يعرفون يسوعَ… مطوّبين أنفسَهم آلهةً.
وساءلَ يسوعُ أولادَهُ… شعبَهُ… “أتحبّني يا بطرسُ؟؟”. “أنتَ تعرفُ يا ربُّ”… “ارعَ خرافي”… وسقطَ بطرسُ وشعبُ يسوعَ وكلُّنا في كذبِ معرفةِ حبِّ يسوعَ!!.
منذ بدءِ البشارةِ من على الصّليبِ، تبقى الكلمةُ المنطوقُ بها مصلوبةً وصالبةً لقائليها، كاتبيها وقارئيها!!.
وجلس “نثنائيلُ” تحت “التّينةِ” العجفاءِ الّتي بلا ثمرٍ ينتظرُ… إذ صارَ هو التّينةَ والتّينةُ صارَتْهُ حتّى صرخَ بهِ صوتُ يسوعَ إذ ساءَلهُ “من أين تعرفُني؟!”…
منذُ سقوطِ براءَتِكَ يا “إسرائيلُ”، حينَ جالسْتَ العقمَ ودبقَ الحسِّ والأنا في الحكمِ على الآخرِ!!.
وإذ أقرَرْتَ “بأنّكَ ابنُ الله”، عُدْتَ كاذبًا عليه، مراوِغَهُ، وبقيَ العارفُ هو وحدَهُ بمكنوناتِ القلوبِ منتظرًا!!. أن نعودَ كلُّنا إلى الحظيرةِ الإلهيّةِ، تائبين وقائلين: “أنتَ ربّي وإلهي”…
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
30تشرين الثاني 2014
وَلَهُ المعرفةِ الإلهيّةِ الحبُّ!…