وغضبَ ربُّ البيتِ!!…
فأرسلَ عبيدَهُ يبحثونَ عن أولادِ المَلِكِ… أبناءِ المُلْكِ!!.
وصرخَ الرّبُّ: أين أولادي؟!. أين شعبي؟!.
أين من قلتُ لهم: إنّي لا أدعوكم عبيدًا بعدُ، بلْ أبناءٌ أنتم الآنَ!!.
لأنّكم لحمٌ من لحمي… وعظمٌ من عظمي… فأنتم أبناءُ العليِّ تُدعون!!…
وصارَ صمتٌ!!… لا نأمةَ روحٍ… لا صوتَ إنسانٍ… لا حسَّ نَفَسِ القلبِ… لا رقرقات مجاري دموعِ الحبّ… لا حياةَ!!!…
وانتظرَ الإنسانُ الصّانعُ العشاءَ العظيمَ!!.
لم يَنْطِقْ!!… لم تهتزَّ روحُهُ!!… توقَّفَ حسُّهُ في قلبِه… فأسكنَ عقلَهُ، ضبطَ انفعالَهُ… أصمتَ روحَهُ حتّى لا يسمعَها شعبُهُ، فيأتوا إليهِ مستجيبين لصوتِ مراسيلِهُ… أرادَهم أبناءً لا عبيدًا بعدُ… أرادَهم صِنوًا له… يسمعونَهُ ومن حسِّ حبِّهِ لهم يأتون!!.
يناديهم بروحِهِ فيهتزّون… هفيفُ صمتِ الكلمةِ يُحرِّكُ أحشاءهم… وقرُ النّداءِ يستميلُهم… للّقيا بعدَ مسيرِ الصّحراءِ الطّويلِ!!…
أين أنتَ يا إلهَنا؟!…
أَيناكُم يا شعبي؟!…
وصارَ صمتٌ!.
* * * * * *
كان لا بُدَّ للكائنِ من أن يكونَ!!..
أنْ يساكنَ الإلهُ شعبَهُ… أن يأتيَهم… أن يدعوَهم إليهِ، ويُدْخِلَهم منازِلَهُ، ولا يدعَهم يعتقون فيها!!…
يدعوهم إلى عشائِهِ العظيمِ… إلى مائدةِ ذبحِ الحملِ الحوليِّ… يقاسمُهم لحمَ جسدِهِ، خُبْزَهُ، يسقيهم عطشَهم لا إلى خمرِ السُّكرِ بذواتِهم، بأحكامِ قلوبِهم، بأعمالِ أيديهم… بل ينعطفُ إليهم، وعليهم… “خذوا كلوا… هذا هو جسدي!! اشربوا منهُ كلُّكم هذا هو دمي… لغفرانِ الخطايا والحياةِ الأبديّةِ”…
ووقفَ الإلهُ في قصرِ مُلْكِهِ العظيمِ… نظرَ المائدةَ ممدودةً… ورأى أنّ كلَّ شيءٍ قد أُعدَّ… ها كلُّ شيءٍ صارَ بهيًا!!… وانتظرَ!!.
وكانتِ الدّينونةُ الجديدةُ تُطلُّ!!…
حلَّ ملءُ الزّمانِ!!. والأوقاتُ كلُّها صارتِ الدّعوةَ إلى العشاءِ… العظيمِ… عشاءِ الإلهِ!!… دعا الملكُ كثيرين، لأنّ الكثرةَ هي الكلُّ!!…
ولكنْ!!… تأخّرَ رَكْبُ المدعوّين… أَبطأوا سعيَهم إليهِ!!.
فأرسلَ عبيدَهُ في ساعةِ العشاءِ يقولُ لهم: “تعالوا فإنّ كلَّ شيءٍ قد أُعدَّ!!.
فطفِقَ كلُّهم واحدٌ فواحدٌ يستعفون”!!…
وحلَّ صمتٌ!!…
غامَ وجهُ الدّاعي إلى العشاءِ!!…
لم يسمعوا صوتَهُ!!…
غيّبوا حضرتَهُ!!…
أماتوه!!…
وصارَ السّقوطُ الثّاني!!.
ورفضَ الإنسانُ صانعُ العشاءِ العظيمِ خيانةَ وتهاونَ مدعوّيه… لم يرضخْ لأهواءِ قلوبِهم، عقولِهم وأحاسيسِ أجسادِهم.
غضبَ على أعمالِ يدَيهِ… غضبَ ربُّ البيتِ… فحاكى عبدَهُ مُخرجَهُ سريعًا إلى شوارعِ المدينةِ وأزقّتِها قائلاً: “أَدْخِلِ المساكينَ والجُدْعَ والعميانَ والعرجَ إلى ههنا… فقال العبدُ: يا سيّدُ، قد قُضِيَ ما أمرْتَ به ويبقى أيضًا محلٌّ… فقالَ السّيّدُ للعبدِ: اخرجْ إلى الطّرقِ والأسيجةِ واضطرِرْهم إلى الدّخولِ حتّى يمتلئَ بيتي”…
“بيتي بيتُ صلاةٍ يُدعى وأنتم جعلتموهُ مغارةَ لصوصٍ!!” (مت ٢١: ١٣).
هكذا ارتحلَ الإنسانُ السّاقطُ إلى إتمامِ عملِ يدَيْهِ… استعفى من الإلهِ!!. اشترى حقلاً…. واشترى الأبقارَ لفلاحةِ أرضِهِ وأكلِ دسمِ حليبِها… وتزوّجَ الرّجلُ المرأةَ، خطيئتَهُ، ليبقى معها مستغنيًا عن الإلهِ… اتَّبعَ التحصيلَ والمالَ والعلمَ…. الكلُّ… كلُّ الأرضِ باعتْ صوتَ ربِّها أمام شهواتِ قلبِها… رفضتْهُ بإبعادِهِ عن كُنْهِ وجودِها… استعاضَتْ عنه بالكتبِ والأنماطِ الكلاميّةِ… قسّمَتْ أموالَها بحسبِ مشتهياتِها… أفرزَتِ الّذين لا يحاكونَها الفكرَ والرّؤيةَ والرّوحَ المتعظِّمَ الّذي بنَتْ عليه حياتَها…
هدمَتِ المذودَ الّذي وُلدَ فيهِ ربُّ المجدِ لتبنيَ قصورَ الذّهبِ والمالِ لإِحياءِ الكلمةِ الإلهيّةِ… ونَسيَتْ… نسِيَتْ أنّ الفقرَ هو مفتاحُ الدّخولِ إلى بيوتِ خالقِ السّمواتِ والأرضِ… فقرُ الإنسانِ إلى ربِّهِ!!.
وفي كلِّ ما صنعَتْ أيدي معلّمي النّاموسِ، نسوا ركائزَ حياتِهم “المسمّاةِ” مسيحيّةً… نسوا “حقَّ الإنجيلِ” في ما ينادون به في كنائِسِهم وفي وعظِهم من الأبوابِ الملوكيّةِ وفي عيشِهم!!…
وغامَ… غامَ وجهُ المسيحِ… فشكّلوا أيقونتَهُ من وجوهِهم وضمائرِهم وتحزّباتِ انتماءاتِهم وأموالِهم المدّخرةِ لآخرتِهم…
وخافَ الفقراءُ مسائلين بعضُهم بعضًا…
آباؤنا هؤلاء؟!. هل يعرفون أنّنا نحن أقربُ منهم إلى يسوعَ لأنّنا فقراءُ مثلَهُ وليس لنا مكانٌ نُلقي عليهِ رأسَنا؟!.
اليومَ خرجَ العبدُ بصوتِ “الإنسانِ” الّذي صنعَ العشاءَ العظيمَ… خرجَ إلى الطّرقِ والأسيجةِ واضطرَّ الجُدعَ والعُميانَ والعُرجَ، وحَمَلَ اليابسي الأعضاءِ والّذين وُضعوا خارجَ الأسوارِ ولم يعدْ لهم مكانٌ في القريةِ، “واضطرِرْهم إلى الدّخولِ حتّى يمتلئَ بيتي!!”…
اليومَ في “أحدِ الأجدادِ” هذا… ينصبُ الإلهُ الرّبُّ يسوعُ محكمتَهُ ليدينَ الأحياءَ الّذين فرغتْ جرارُهم من ماءِ الحياةِ الحيِّ!!.
اليومَ الكنيسةُ عذراءُ المسيحِ ومستقرُّ حياتِهِ في حشاها تقفُ صامتةً… هادئةً… ساكنةً، منتظرةً أن يعودَ الحملُ الحوليُّ البريءُ المذبوحُ على مائدتِها إلى ابنِها ليقسِّمَهُ فلا ينقسمَ ويُجزِّئَهُ ليبقى كاملاً، فيأتيَ إليهِ المجروحون بجرحِ الحبِّ والحنانِ والغربةِ الإلهيّةِ، ليستعيدوا وجعَ قلوبِهم وأَفكارَ عقولِهم، فيعودَ ويُشكّلَهم وجوهًا نورانيّةً من نورِ نجمِهِ المصلَّبِ الزّوايا في الأفلاكِ لكلِّ الّذين ما زالوا ينظرون خطايا قلوبِهم ليعرفوها فيلجأوا إليه صارخين له…
“تعالَ يا ربَّنا… تعالَ وخلِّصْنا بِنَعَمِ حبِّنا لكَ من غُرْبَتِنا عنكَ”… آمين.
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
14 كانون الأول 2014