يصعد الربّ وحيدًا إلى أورشليم، فالذين معه (تلاميذه) ليسوا معه وإن رافقوه صعودًا إليها. والذين ليسوا معه، رافقوه لكنّهم أهلكوه في النهاية. أَهذه هي طبيعة الكأس التي تحدّث عنها المسيح لتلاميذه في إنجيل الأحد الخامس من الصوم؟ أَلعلّ ما عبّر عنه المسيح في تأمّله أورشليم من بعيد، مدينتنا ومدنيّتنا الأرضيّة، واستطرادًا بيتنا ورعيّتنا وكنيستنا، وهو يبكي عليها لأنّ أبناءها لا يريدون أن يجمعهم «كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحَيها» (متّى ٢٣: ٣٧)، يشرح طبيعة هذه الكأس التي هي أيضًا من نصيب كلّ أبٍ أو راعٍ أو مرشد في الكنيسة؟
لقد ترادفت عبارة «الكأس» مع عبارة «الصبغة» في جواب الربّ على طلب يعقوب ويوحنّا، من حيث جلوسهما عن يمينه وعن يساره في مجده. أَلعلّ هذه العبارة الثانية تشير إلى ما يريد المسيح أن ينفذ إليه تلميذاه، ونحن من بعدهما، من حيث أوّليّة خلاص النفس على أيّ اعتبار آخر، ولو كان شريفًا، وكيفيّة تحقيقه في حياتنا؟ ففي ذهن هذَين التلميذَين «مشاريع» و«برامج» و«أنشطة» مشروعة لتحقيق البشارة يجدان فيها دورًا مرموقًا وشريفًا، لربّما عن حقّ، في اتّباعهم المسيح. كأنّي بالمسيح يصوّب بوصلة الذين كانوا يتوقّعون منه أمورًا أخرى أو أولويّات مغايرة بحيث كانوا يحثّونه، بطريقة ما، على تجسيدها في خطّه البشاريّ ودفعه إلى إظهارها للعالم (يوحنّا ٧: ٤).
ما سبق قوله كان الفاتحة لكي ينعكف المسيح مباشرة على معالجة وضع البيت الداخليّ بين أفراد المجموعة التي ستحمل الإنجيل إلى العالم. كانت ألباب هؤلاء ونفوسهم والعلاقة بينهم في توتّر كبير، فشكّل مطلب يعقوب ويوحنّا المناسبة الكبرى ليقوم الربّ بإرشادهم جميعًا إلى سبيل الاعتراف بالخطيئة والاتّضاع والتوبة، معلّمًا إيّاهم، بمثاله الخاصّ، قبول الكأس والصبغة، بانسحاق كبير، وموضحًا معنى الأوّليّة وترجمتها بالخدمة المنسحقة.
لا ينفر المسيح أبدًا من الواقع الذي يحيط به مهما كان مؤلـمًا ومحبطًا، خصوصًا إذا كان أصحابه لا يدركون حقيقة واقعهم المرير. فقد وقفت هذه الحفنة الصغيرة من التلاميذ تحاكم نيّات أفرادها وأفعالهم، حتّى كاد الأمر أن يودي بانفراط عقدها في مهد نشوئها. لربّما كانوا على حقّ، ولديهم أسباب مشروعة يبرّرون بها انفعالاتهم وأحلامهم وطريقة رؤيتهم لتحقيق البشارة، كأن يقوموا بالدفاع عن حقّ المسيح والعمل من أجل مجده، واستطرادًا، وبغير وعيّ، يضمنون على هذا النحو الجلوس عن يمينه ويساره في هذا المجد الذي في ذهنهم.
أمام هذا الوهن الروحيّ والصميميّ الذي تكشفه لنا الحادثة الإنجيليّة، ينتصب في أذهاننا انتهار المسيح لتلاميذه: «لا يكن هكذا فيكم!» ونستذكر حرص الكنيسة وإلحاحها علينا، في كلّ طلبة ابتهاليّة، على وحدة الجماعة بأن «نودع ذواتنا وبعضنا بعضًا المسيح الإله». بغير البحث عن هذه الوحدة وتجسيدها في العمل الكنسيّ وتحقيقها بالمحبّة، ينفرط عقد الجماعة الرسوليّة، فيعمل كلّ تلميذ لحسابه وعلى طريقته وبحسب منطلقاته، بينما تبقى الكأس والصبغة من نصيب المعلّم وحده! فبينما ينبذ الواحد الآخر، ويزداد التذمّر في الجماعة ولربّما الشقاق، هل يصير المسيح نفسه منبوذًا بالعمق من تلاميذه، من حيث لا يدرون ولا يشتهون؟
لقد تعهّد يعقوب ويوحنّا شرب الكأس والاصطباغ بالصبغة التي تحدّث عنها المسيح، واقتفاء المثال الذي تركه لهما؛ وهذا ما حصل معهما ومع إخوتهم المتذمّرين منهما. الآن يأتي دورنا، نحن تلاميذ المسيح، لنتعهّد السير في إثره بالروحيّة التي بيّنها لتلاميذه، في البيت والرعيّة والدير والأبرشيّة والكنيسة الجامعة، بحيث ننزع عنّا، في خدمتنا كنيسته وبناء أعضائها هيكلاً مقدّسًا، «مشاريعنا»، على أحقّيّتها ومشروعيّتها، و«أمجادنا»، على نبلها وسموّها واستحقاقنا، لكيلا نوجد، على غفلة منّا، خارج «النصيب الصالح» (لوقا ١٠: ٤٢) الذي أعدّه المسيح للذين يخدمون إنجيله بحسب الأوّليّة وروح الخدمة اللذَين أرساهما لعملنا الكنسيّ.
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما(جبل لبنان)
عن “رعيتي”، العدد 15، الأحد 14 نيسان 2019