تَميَّز الأرثوذكسيّ على مرّ التاريخ بمحبّته لإيمانه الحقّ، مؤمنًا أنّ الله نبلغ إليه في الحقّ. ليس عيد الأرثوذكسيّ الحقّ التغنّي بمآثرَ ماضية، إنّما بالتوبة عمّا لم يستطع عيشه من حقائقِ الإيمان. هذا هو عيد الأرثوذكسيّ، أن يحيا بالخبرة عقائد الإيمان بيسوع المسيح.
في الأحد الأوّل من الصوم الكبير، يحتفل الأرثوذكسيّون في كلّ مكان بأحد الأرثوذكسيّة. ماذا يعني هذا العيد؟ يعني انتصار الكنيسة على كلّ الهرطقات التي مرّت في تاريخها وحاربتها مباشرة. فالحقّ الّذي يتمسّك به الأرثوذكسيّ، لم يتسلّمه بسهولة، إنّما أتى نتيجة جهاد آبائها ومعترفيها وشهدائها. وكان هؤلاء قوّة الكنيسة الساهرة دومًا على إيمانها وعقائدها المقدّسة ضدّ كلّ تعليم غريب يشوّه مقدّساتها.
وهذا الإيمان هو وديعة يتسلّمها الأرثوذكسيّ وسيُطلب منه أن يسلّمَها كما تسلّمها (1كور23:11). هكذا عبّر بولس الرسول حين قال: “قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السّعي، حفظتُ الإيمان، وأخيرًا قد وضع لي إكليل البرّ” (2تيم7:4-8).
وفي كلّ مرّة تنتصر فيه الكنيسة على هرطقة ما، يُعتبر عيدًا للأرثوذكسيّة. وكانت الكنيسة تُضيف انتصارها هذا إلى انتصارات هذا الأحد، أحد الأرثوذكسيّة، وتُلقي الحرومات على أولئك الّذين خالفوا وشوّهوا تعاليمها. وهكذا، أحد الأرثوذكسيّة لم يعد محصورًا في زمن ما، وإن كنّا نحتفل به في وقت معيّن من كلّ سنة، إلاّ أنّه أصبح رمزًا ثابتًا لجهاد الكنيسة وانتصارها على الهرطقات والتعاليم الغريبة التي لم تتوقّف من البدء.
إنّ تمييز إيمان الكنيسة الرسوليّة، التي أعطيت للعالم في العنصرة، عن إيمان الهراطقة المنحرف والمشوّه لتعليم الرسل عُبّر عنه بكلمة “أرثوذكسيّة”، وهي تعني التمجيد المستقيم أو الإيمان المستقيم.
العقائد الأرثوذكسيّة تقودنا إلى الحقّ
إنّ كلّ من العقائد، والإيمان، والكنيسة، والتسليم أو التقليد، هي موضوعات لها مكانتها السامية في وجدان الأرثوذكسيّ؛ وكلّ هذه تشهد على الإيمان الواحد الّذي كانت الكنيسة تعيشه من البدء. لا بدّ من أن يكون الإيمان الّذي يوحّدنا بالربّ يسوع المسيح واحدًا، حتّى تكون الكنيسة واحدة. والإيمان يُبنى على العقائد؛ حين تتغيّر العقائد يتغيّر كلّ الإيمان. لقد حفظت الأرثوذكسيّة إيمان الكنيسة الأولى كما تسلّمته من البدء؛ لم تزد عليه حرفًا ولم تُنقص منه حرفًا. فالزيادة والحذف بما يتعلّق بمواضيع الإيمان هما صنوان. لقد فهمت الكنيسة قول كاتب سفر الرؤيا، عن الّذي يزيد أو يُنقص من هذا الكتاب، أنّه ينطبق على الّذي يزيد أو يُنقص من عقائد كلّ كتب العهد الجديد: «لأنّي أشهدُ لكلّ من يسمع أقوال نُبوّة هذا الكتاب: إن كان أحدٌ يزيد على هذا، يزيد الله عليه الضّربات المكتوبة في هذا الكتاب؛ وإن كان أحدٌ يحذف من أقوال كتاب هذه النّبوّة، يَحذفُ الله نصيبه من سفرِ الحياة» (رؤ18:22-19).
ولكي لا يزيد أو يُنقص، يُجاهد كلّ أرثوذكسيّ حقيقي، بمقدار ما هو ممكن، للدخول عميقًا في معرفة الإيمان الأرثوذكسيّ. ليس الإيمان بيسوع المسيح أمرًا مجرّدًا أو عقليًّا، إنّما سعي لا ينتهي للدخول في سرّ يسوع المسيح. لا نستطيع أن نخلص من دون الحقيقة. هذه الحقيقة التي اؤتمن عليها كلّ أرثوذكسيّ، خاصّة الأساقفة والكهنة، كـ «وكلاء أسرار الله» (1كور1:4)، تُلزمهم بالمحافظة الدقيقة على سرّ الإيمان الأرثوذكسيّ، لكي يكونوا جزءًا لا يتجزّأ من جسد المسيح الحيّ، من كنيسته. الأسقف يصير هو «الكنيسة» حين يُخضع فكره وإرادته لإيمان الكنيسة ويُجاهد حتّى الدمّ في حفظ عقائدها. حينها فقط يمكن أن تشتعل في داخله محبّة يسوع المسيح الصافية، التي تحرّكها نعمة الروح القدس. المحبّة الحقيقيّة تأتي من الإيمان القويم، وإلاّ أصبحت محبّة بشريّة فاسدة تحرّكها أهواء محبّة الذات والمجد الباطل.
الأرثوذكسيّ يُبغض الإثم
بمقدار ما يحبّ الأرثوذكسيّ الحقّ بهذا المقدار يُبغض الإثم. قد أمسينا في زمن شرّير تنبّأ عنه الكتاب المقدّس، تسود فيه روح المسيح الدجّال. وهذه هي الهرطقة الكبرى في عصرنا الحاضر، روح العالم، أو العولمة الشريرة، التي تنشر روح الميوعة تجاه الإيمان والعقائد الأرثوذكسيّة. إنّ روح الميوعة تجاه العقيدة والإيمان هي العلامات التي ستسبق مجيء المسيح الدجّال. لعلّها الأيام الأخيرة التي تنبّأ عنها الكتاب أنّها ستكون زمن الارتداد عن الإيمان الحقّ والعقائد الحقّة. وهي بحسب الكتاب المقدّس، تستلهم تعاليمها وطرقها من الشياطين: «ولكنّ الرّوح يقول صريحًا، إنّه في الأزمنة الأخيرة يَرتدّ قومٌ عن الإيمان، تابعين أرواحًا مُضِلَّة وتعاليم شياطين» (1تيم1:4).
نقرأ في سيرة القديّس باخوميوس، أنّه فيما كان يتحادث مع بعض المتوحّدين انتبه إلى رائحة كريهة جدًّا انبعثت من المكان؛ بعد مغادرتهم طلب من الله أن يعلمه عن سبب هذه الرائحة. فأعلم الله القديّس باخوميوس، بواسطة ملاك، أن “عقائد كفر كانت تفوح من نفوسهم”.
الأرثوذكسيّ يعيش بالروح والحقّ
معرفة الحقيقة الأرثوذكسيّة ليست نظريّة إنّما طريقة حياة نعيشها في حياة الكنيسة الليتورجيّة. لهذا، حياة التقوى الكنسيّة مرتبطة بالعقيدة. إذا كانت عقائدنا مستقيمة فإيماننا كلّه يكون مستقيمًا، والإيمان المستقيم يحفظ حياة التقوى من الانحراف والتغيير. بتواضع نؤمن، أنّ الجهاد الروحيّ والحياة الروحيّة، هما خاصيّة الأرثوذكسيّة التي حفظتهما من أي انحراف أو تغيير.
إنّ التقليد الأرثوذكسيّ هو تقليد تطهير القلب، عبر جهاد قاس ضد الأهواء التي تقف حاجزًا بيننا وبين معرفة الله الحيّ. إنّه تقليد الحياة النسكيّة التي تُميت الخطيئة في القلب وتجعل الإنسان قادرًا على حمل نير المسيح ومعاينة مجده. النسك، من صوم وصلاة وأسهار وتطبيق وصايا المسيح، هم في النهاية الوسيلة الوحيدة لبلوغ معرفة يقينيّة للإله الحيّ بمشاركة فعليّة للنفس والجسد. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: «إنّ قول شيء عن الله لا يُعادل لقاء مع الله» (الثلاثيّة الأولى، 3، 42). بمقدار ما نتنقّى من نزعاتنا الفاسدة بهذا المقدار ندخل بعمق أكثر في سرّ الأرثوذكسيّة التي حفظت لنا إلهنا حيًّا. فالهراطقة قتلوا هذا الإله الحيّ وحوّلوه إلى صنم.
التكبّر الّذي كان علّة سقوط الإنسان الأول، يبقى إلى الأبد علّة السقوط المستديمة. وكلّ هرطقة علّتها المخفيّة هي أولاً التكبر. أمّا الأرثوذكسيّة فهي كمسيحها، لا يمكن لأحد أن يقبلها إلا بالتواضع. المتواضع يقبل الحقيقة دون أن يثور عليها لأنّها تُخالِفُ آراءَه ومعتقداتِه. المتواضع الحقيقيّ يبحث عن الحقّ فيجده لأنّ الربّ لا يدعه يضلّ ويخسر خلاصه.
الأرثوذكسيّة هي مدينتنا الباقية
الأرثوذكسيّة هي الكنيسة الحقّ للمسيح الحقّ، ليست كنيسة قوميّات فاسدة. نحن أرثوذكسيّون قبل أن نكون إنطاكيّون أو يونانيّون أو روس أو رومانيّون… إنّ ما يجمعنا ليس قوميّة جغرافيّة بل الحقيقة الأرثوذكسيّة، هي التي تجعلنا واحدًا، متّحدين برباط الإيمان الواحد مع كلّ أرثوذكسيّ في هذا العالم الحاضر؛ وهي الرباط الأبديّ الّذي يجمعنا بعد الموت مع بعضنا البعض ومع المسيح في العالم الآتي.
كثيرون يريدون وحدة إنطاكية، لكن يسعون لجمع إنطاكية في إثمها لا في توبتها. وهم بهذا يُحاربون الأرثوذكسيّة لأنّهم يمزجون الحقّ مع الضلال. إنطاكيّة مزّقتها الهرطقات والبدع المتعدّدة، أمّا الأرثوذكسيّة فهي الكنيسة الواحدة التي لا تنقسم ولا تتجزّأ. إنّ ثبات الأرثوذكسيّة في مؤمنيها وحده يحفظ إنطاكية من أن تتحوّل إلى بابل جديدة.
خاتمة
إنّ العالم يحتاج إلى الأرثوذكسيّة احتياجه إلى الماء والهواء. إنّها الطريق المستقيم والمباشر إلى المسيح الحقيقيّ، لأنّ عقائد إيمانها لم تَصغها جامعات هذا العالم ولا علوم هذا الدهر، إنّما قوّة الروح القدس. آباء قدّيسون، امتلأوا من نعمة الروح القدس فتقدّسوا وحدّدوا العقائد وكلّ حياة الكنيسة الليتورجيّة. كلّ ما في الأرثوذكسيّة أتى من حركة النعمة الإلهيّة المباشرة في الكنيسة، كلّ شيء فيها أتى من جهاد آبائها في حفظ الإيمان بالمسيح الحقيقيّ، من دموع توبتهم وأسهارهم في الصلوات الطويلة والأصوام والسجدات الكثيرة. هذه العقيدة المستقيمة، هذا الإيمان الأرثوذكسيّ، هو الّذي يحفظ النعمة الإلهيّة في هذا العالم البائس، لئلاّ يموت هذا العالم في خطيئته ويفنى بإثمه.
نحن لسنا شيئاً آخرَ سوى أرثوذكسيّون.
كلمة الارشمندريت غريغوريوس اسطفان
رئيس دير سيدة بكفتين
بمناسبة العيد الأوّل لمجموعة أرثوذكسيّون
في 9/10/2016