يأتي مقطع الرسالة المختار لهذا اليوم من رسالة القدّيس بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس، (الإصحاح التاسع، الآيات من السادسة حتّى الحادية عشرة). كتبت هذه الرسالة في زمن قام فيه أحد الأنبياء واسمه أغابوس، وهذا أشار بالروح إلى أنّ جوعًا عظيمًا كان عتيدًا أن يصير على جميع المسكونة. حصل ذلك أيّام كلوديوس قيصر. يبدو أنّ كنيسة أورشليم كانت الأكثر معاناة في هذه المحنة، فقامت حملة بقيادة بولس الرسول لجمع التبرّعات وإرسالها إلى التلاميذ الموجودين في أورشليم وكلّ اليهوديّة (أعمال الرسل ١١: ٢٧-٣٠). استمرّت الحملة أكثر من سنة وتجاوبت الكنائس مع مناشدات الرسول بولس، الذي يمتدح في هذه الرسالة نعمة الله المعطاة إلى كنائس مكدونية، الذين أعطوا أنفسهم أوّلاً للربّ، ثمّ جمعوا مساعدات فوق طاقتهم ومن تلقاء أنفسهم، «ملتمسين منّا بطلبة كثيرة أن نقبل النعمة وشركة الخدمة التي للقدّيسين» (٢كورنثوس ٨: ١-٥).
نلاحظ أوّلاً أنّ الرسول بولس يستعمل كلمة قدّيسين للدلالة على الذين يمرّون في ضيقة، ويحتاجون إلى مساعدة إخوتهم، والقدّيسون هم أقرب المقرّبين إلى الله. لا شكّ في أنّ ذلك يذكّر القارئ بأنّ الله سبق ووحّد نفسه بكلّ محتاج، وبأنّ كلّ خدمة تقدّم إلى أحد إخوة يسوع الصغار إنّما إليه تقدّم.
نلاحظ أيضًا، عبر هذه المحنة التي عانى منها التلاميذ الأوّلون، أنّ الجميع تصرّفوا على أساس أنّ الكنيسة واحدة ومرتبطة بعضها ببعض في الفعل لا في القول فقط، في المحبّة الفاعلة ولا في كلام الإيمان فقط، في شركة الخيرات الأرضيّة لا في شركة ليتورجيّة فقط. أهل مكدونية وأخائية وكلّ اليونان وحيثما وجُد تلاميذ للمسيح، اعتبروا أنفسهم مسؤولين عن أهل أورشليم واليهوديّة، ويقع على عاتقهم أن يعينوهم في ضيقتهم.
صورة الكنيسة الواحدة التي تجلّت حينها تصفع واقع كنيستنا اليوم، حيث تشعر معظم الرعايا أنّها غير معنيّة بالرعايا الأخرى المجاورة أو البعيدة، وتتصرّف كلّ أبرشيّة على أساس أنّها معزولة عن باقي الأبرشيّات، ولا علاقة أخويّة تفرض على الأخ الميسور أن يشارك أخاه الأقلّ يسرًا في ما تقدّمه هذه الدنيا. يجب أن تلي هذه الصفعة نهضة تزيل من النفوس التفرقة التي تقوم بين ابن هذه العائلة وتلك، ابن هذه القرية وتلك، ابن هذا البلد وذاك.
نلاحظ أيضًا أنّ الرسول بولس يعود ويحثّ أهل كورنثوس على العطاء، رغم أنّه سبق لهم أن أعطوا، إذ يقول لهم: «لأنّ هذا ينفعكم أنتم الذين سبقتم فابتدأتم منذ العام الماضي» (٢كورنثوس ٨: ١٠). فالعطاء عمل متواصل ولا يحصل مرّة وكفى. لا يشعر المعطي أنّه فعل واجبه وأدّى قسطه للعلاء وجاء دور غيره الآن، بل يشعر بفرح العطاء ونعمة الله وبركاته، فيطلب أن يعطي أكثر لأنّ «من يزرع بالشحّ فبالشحّ أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد» (٢كورنثوس ٩: ٦). لهذا لا يتوقّف الرسول بولس عند كون العطاء يسدّ إعواز القدّيسين فقط، بل يضيف أنّه يفيد المعطي أيضًا وينفعه ويُكثر بذاره ويزيده الله كلّ نعمة.
قمّة الكلام ذكر الرسول أنّ «المعطي المتهلّل (أي المعطي بسرور) يحبّه الله (٢كورنثوس ٩: ٧)، وفي ذلك فرح ما فوقه فرح، وربح يكشف أنّ كلّ ربح آخر إنّما هو خسارة. وهذا يقود الرسول إلى اعتبار أنّ المديون للآخر هو المعطي وليس المعطى إليه! فأهل مكدونية وأخائية الذين استحسنوا أن يرسلوا
مساعدات «لفقراء القدّيسين الذين في أورشليم»، هم المديونون وليس فقراء أورشليم! (رومية ١٥: ٢٥).
بعد هذا هل يبقى مجال للانعزال عن باقي الإخوة القدّيسين، أو للتأفّف من وجود من يحتاج إلى أموالك وهو من غير عائلة أو رعيّة أو أبرشيّة، أو للتحجّج بقلّة الإمكانيّات لحجب محبّة الله عنك وعن قدّيسيه؟