هذا السؤال، الذي وجّهه الربّ إلى عالِم شريعة (لوقا ١٠: ٢٥-٣٧)، سؤال مخيف فعلاً. ويجب أن يخيفنا جميعًا. ولا أقول يخيفنا، وفي بالي، فقط، أنّ معظم الناس، في زماننا، لا يقرأون شيئًا، بل لا يدركون، تمامًا، أنّ الربّ ما زال يمشي على دروبنا حاملاً جعبة أسئلة يودّ أن يطرحها علينا أيضًا.
هذه المقدّمة الوجيزة تضعنا في مرمى هذه السطور. لن نجرؤ على أن نتصوّر الأسئلة، التي تعجّ بها جعبة الربّ، بل سنلتزم سؤاله (كيف تقرأ؟) الذي لا يليق بنا حصره بِمَنْ سمعه أوّلاً. ويجب، في البدء، أن نذكر أنّ هذا العالِم، الذي سمع يسوع يسأله ردًّا على سؤاله عن ميراث الحياة الأبديّة: “كيف تقرأ؟”، قد التزم، في جوابه، قول الكتب القديمة بجمعه الوصايا في اثنتين تتعلّقان بمحبّة الله والقريب. وفي هذا الردّ الذي زكّاه الربّ بقوله “بالصواب أجبت، اعمل ذلك فتحيا”، يجب أن نلاحظ، تاليًا، أنّ قراءة الكتب المقدّسة هي التي تستدعي الحياة بموجبها. وما سنقوله، في ما يلي، تفصيل لهذا الأمر الثابت.
أوحينا أنّ معظم الناس لا يهمّهم أن يقرأوا (الكتب المقدّسة وغيرها). وهذه الحقيقة، التي لا تحتاج إلى مَنْ يؤكّدها، يعرفها القاصي والداني، ولا سيّما المؤمنون الذين لا يمكننا أن نعلم مَنْ منهم سيحاول أن يقرأ هذه السطور. لِمَ معظم الناس لا يقرأون شيئًا؟ سؤال لا يمكن أن نضع له جوابًا يتيمًا. إن قلنا إنّهم كسالى مثلاً، فنصيب كثيرين منهم. وإن قلنا يخافون أن يدخلوا عالم المعرفة المربّي، فنصيب آخرين. وإن قلنا إنّهم يعتبرون أنّ المعرفة شأن سواهم، فنصيب أيضًا. وإن قلنا معظمهم يدّعون أنّهم يعرفون كلّ شيء، فنصيب أيضًا وأيضًا… وإن قلنا أيّ شيء آخر، فلا نبتعد عن الإصابة. فمعظم الناس لم يدركوا بعدُ أنّ المعرفة، أي معرفة فكر المسيح، أساس من أسس الالتزام الراقي والحامي والذي ينشر الخير في عالم يعوزه الخير كثيرًا جدًّا. الناس، معظم الناس، أسرى فراغ يبدو أنّه بات وطنًا لهم!
لكلّ مسيحيّ واعٍ رجاء أن يعمّ الخير في العالم. وعلى قلّة الواعين الذين يسعون إلى نشر الخير في الأرض، هذا أمر لا يليق بنا حجب ذكره. وإذا سأل ربّنا رجلاً على الطريق “كيف تقرأ؟”، يمكننا أن نرجو أن ننتبه جميعنـا، نحن المـؤمنين، إلى أنّ هذا السـؤال يمكـن أن يُطرح علينا يومًا. وإن ردّدنا أنّ هذا السؤال أتى ردًّا على سؤال يتعلّق بميراث الحياة الأبديّة، فما من أمر يمنعنا من أن نراه سؤالاً أخيريًّا (أي يتعلّق باليوم الذي سيدين الله فيه العالمين). نحن، في العادة، نحصر قضاءَ اللهِ الأخيرَ بأنّه سيسألنا عمّا فعلناه في العالم من خير، أو عمّا لم نفعله. وهذا، طبعًا، أمر صحيح يوحي به تراثنا المكتوب (متّى ٢٥: ٣١-٤٦). ولكنّنا لا نكون مسيحيّين حقًّا، أي أشخاصًا نستحقّ الحياة الأخيرة، إن لم نضمّن اعتقادنا أنّ معرفة “فكر المسيح” هي عمل من أعمال الخير أيضًا. فالمسيحيّ يصعب عليه، واقعيًّا، أن يفعل الخير إن لم يعتنق ما يدفعه إلى التزامه، أي معرفة تعليم الله.لست أقصد، فحسب، أن يحضّنا على ذلك إيماننا بأنّ الله قد وهبنا عقلاً قابلاً لأن ينمو (وهذا صحيح أيضًا)، بل، دائمًا، أنّ الخير، الخير كلّه، أن نلتزم ما يريده ربّنا من عمل الخير عن معرفة. وأنّى لنا أن نعرف ما علينا التزامه إن لم نجاور الكلمة التي هي حياتنا وخيرنا؟
من صميم مغزى هذا السؤال (كيف تقرأ؟)، يمكننا أن نلاحظ أنّ الرجل، بعد أن سمع الربّ يدعوه إلى أن يعمل بما قاله جوابًا عن محبّة الله والقريب، أراد أن يزكّي نفسه، فسأله: “وَمَنْ قريبي؟”. فردّ عليه يسوع بقصّة “السامريّ الشفوق” الذي ساعد إنسانًا، لا تعطفه عليه قرابة جسديّة، رآه على الطريق بين حيّ وميت، فبات ذاك الغريب (الذي يكرهه اليهود جميعًا)، برأي الناموسيّ، قريبًا لِمَنْ أعانه. هذا مثل من أمثلة الخير العامّ الذي تعلّمنا إيّاها الكتب. هل يمكننا أن نستشفّ أمرًا آخر؟ أجل. وهذا أنّ الربّ ردّ على سؤال طرحه شخص كانت نيّاته سيّئة! جمال هذا الردّ أنّه يكشف لنا أنّ الربّ حرّ من كذبنا وتعقيداتنا وأفكارنا المغرضة. الربّ يحبّنا، ولا يردّنا عنه، وإن كنّا غير نافعين! إنّه حاضر، دائمًا، يفتّش عنّا، ليعيدنا إليه بودّه وصبره، ويعلّمنا كلّ ما فيه خلاصنا. وهل لنا من سبيل يكشف جمال يسوع وحرّيّته وإراداته المخلِّصة بعيدًا من كشف الكتب؟ هذا العالَم، عالَم القراءة، أي قراءة الكتب المقدّسة، هو الذي يعلّمنا، إن أردنا أن نتعلّم، أن نرتبط بالربّ المربّي، الذي يستقبح الخطأ وكلّ فكر أسود، أشخاصًا فاهمين أو يحتاجون إلى تنقيح. بعيدًا من هذا العالَم، نقيم في صحراء جهل يصعـب علينا الخروج منها.
سأله، إذًا. لم يـرده أن يقـرأ فـقـط، بل أن يبـدي مسؤوليّةً عمّا كتب أيضًا. نحن مسؤولون عن كلمة الله، بأيّ معنى؟ بمعنى أنّها وضعت من أجلنا، لنقرأها، وننقلها حياةً ومحيية. هل يمكننا أن نكتشف أمرًا آخر أيضًا؟ أجل. وهذا أن نعرف الربّ
الذي كلّ ما في الكتب يدلّ عليه. ليست الكتب أفكارًا عن الله، بل تنقله شخصيًّا إلينا. فـ”كيف تقرأ؟” يجب أن نرى فيها دعوةً إلى أن نلتقي بالربّ في قراءة كتبه!
هذا السؤال، الذي خرج من فم يسوع، يجب أن يشجّعنا جميعنا على أن نلتزم القراءة، لا سيّما قراءة كتبنا المقدّسة، لا خوفًا من الله الذي الوقوع في يديه مخيف (عبرانيّين ١٠: ٢٧)، بل حبًّا به وبالتعمّق في معرفته المخلِّصة. فهذه الكنيسة الرائعة لا يخدمها سوى أشخاص يعتقدون أنّ الربّ ما زال يمشي على طرقات وجودنا، ليسألنا عن إرث تاريخ طويل حفظه روحه، لنحيا به في كلّ يوم، ما دام لنا يوم.