الأب أنطوان ملكي
فيما ندخل صوم الميلاد، يدخل العالم من حولنا إحدى أكثر فترات السنة انشغالاً وضغطاً على العائلات. فالإعداد للميلاد يتضمّن التسوّق والثياب الجديدة والتزيين والتخطيط للاحتفالات وغيرها. ومن نافل القول أنّ كل هذا لا يرتبط بالميلاد بشيء، ومن الضروري التكرار بأن الاستعداد للميلاد يكون بالصلاة والصوم والصدقة والمصالحة والتوبة، وإلا فإن استعداداتنا ليست لتمجيده في ولادته. من هنا تأتي القراءة اليوم لتذكّرنا بكل هذا. فالناموسي سأل “مَن هو قريبي” لأنه يريد أن يتهرّب من سؤال السيد عن تطبيقه للناموس، بينما نحن فينبغي أن يكون واضحاً لنا أن كل محتاج هو قريبنا وأن كل مَن يحتاج إلى المعونة يستحق الرحمة منّا. هذا هو معنى محبة القريب. ومع دخولنا في صوم الميلاد، أي فترة التهيئة لهذا العيد، علينا جميعاً الاعتراف بأننا مقصّرون عن تنفيذ وصية السيد. كمثل الفريسي نحن نريد بأن لا تضمّ لائحة أقربائنا أحداً غير الذين يحبوننا ونحبهم، حتى نشعر بالرضى بأننا نطبّق وصية المسيح. كان السؤال المطروح على يسوع من هو قريبي وقد أجاب عليه بسؤال: أي هؤلاء تحسب صار قريباً؟ ما يريد قوله السيد هو أن الإنسان يصنع قريبه، إذا أحبّ الآخر يجعله قريباً.السؤال ليس إذاً مَن هو القائم بقربي بل أي انسان أقدر أن أصيَره قريباً. الجواب انا أخلق القربى بما أعطيه. جواب يسوع كان: “الذي صنع إليه الرحمة“. القرابة صيرورة خلق وليست كلاماً. يصير الإنسان قريباً للآخر ويصير الآخر قريبه بالمحبة. الإنسان يصنع القريب بالمحبة والرحمة.
المحبة تفترض متابعة وانتباهاً متواصلاً، لأن المحبة ليست عاطفة عابرة، بل هي أمر يدوم ويواظَب عليه، والذي يحبه الإنسان يتحمله ويحفظه في قلبه، ينفق من وقته وحياته وماله وصحته من اجله، وبذلك يكون قد اقترب منه وجعله قريبه. اذ ينقل الله إليه من خلال عطفه ومحبته وانتباهه، يقترب هو تدريجياً من الله ويتعرّف عليه. لذلك، عمل الرحمة مطلوب من كلّ مؤمن، لأنّ مَن يسدّ أذنيه عن صراخ المسكين، يصرخ هو أيضاً لا يُسمع له (امثال31:21). أمّا مَن يرحم قريبه فيُقرِض الرب (امثال17:19) ويكنز في السماء كنوزاً من الرحمة يعينه الرب بها عند الحاجة .
نحن تقبّلنا أعظم الرحمة في مجيء المسيح. وفي تعييدنا لميلاده نعيّد لتقبّلنا هذه الرحمة. لذا يجب أن نتعلّم الرحمة لكي نتلقاها. مَن لا يمارسها ولا يشعر بها ومن لا يعطيها يبقَ خارجاً. الدينونة بلا رحمة لمَن لم يعمل الرحمة (يعقوب13:3).آباء الكنيسة رأوا أن السامري الشفوق هو صورة للمسيح ابن الله، الذي أتى ليرحم الذين لا يحبونه من دون تمييز بين الأعراق والأديان والطبقات واللغات.
إذاً، يدعونا إيماننا للتحضير لعيد الميلاد بطرق مختلفة جداً عما هو شائع في حضارتنا القائمة. فالأمر ليس كلّه هدايا ومشتريات وحفلات واهتمام بعدم اكتساب الوزن. بل بالأحرى، الأمر هو النمو في الرحمة والشفقة. الاستعداد للميلاد هو في اظهار المحبّة الحقيقية لله وللقريب. علينا أن نستفيد من صوم الميلاد وزمن الاستعداد، للإعداد على أكمل وجه لاحتضان بشريتنا المكسورة وإنسانيتنا الفاسدة التي وُلد المسيح، آدم الثاني، لكي يستعيدها. ليست الحياة المسيحية مجموعة من القواعد بل هي المسار الذي يسلكه المرضى والضعفاء والمضطهدين والمحبطين ليصلوا إلى البركة والقداسة التي خُلِقوا لها على صورة الله ومثاله. دعوة يسوع الاخيرة للناموسي بقوله “امضِ واصنع انت أيضاً كذلك” موجّهة لكلّ مؤمن اختبر افتقاد الله وايقن أنّه قريبه.
www.orthodoxlegacy.org