بقي عيد الميلاد مقترناً بعيد الظهور الإلهي، في الكنيسة الأولى، حتّى القرن الرابع. وبعد أن صارت المسيحيّة ديانة رسميّة، في الإمبراطوريّة الرومانيّة، ومن ثمّ ديانة الدولة، جعلت الكنيسة لميلاد الربّ بالجسد عيداً خاصّاً، وفصلته عن عيد الظهور الإلهي، وحدّدته في يوم عيد الشمس، الذي كان عيداً وثنياً شعبياً، ترافقه احتفالات لا تليق بالمسيحيّين. عمّدت الكنيسة العيد الوثني، ونقلت مركزه، من الشمس المنظورة، إلى المسيح “شمس العدل”، كما تسمّيه ترتيلة عيد الميلاد. في الكنائس الشرقية يتركّز الاهتمام، لاهوتيّاً، على عيد الظهور الإلهي، أكثر منه على الميلاد. وأهميّة عيد الظهور اللاهوتيّة تجعله في المرتبة الثالثة، بعد الفصح والعنصرة.
يُدعى عيد الظهور الإلهي، شعبيّاً، بعيد الغطاس. وفعل “غطّس” موازٍ، في المعنى، لفعل “عمّد”، في اللغة اليونانيّة. من هنا، يكون معنى لفظة “المعموديّة” الحرفي، في اللغة اليونانيّة، “تغطيس”. ولذلك اعتاد شعبنا على اعتبار هذا العيد، عيداً لكلّ من كان اسمه “غطّاس”. وجرى التقليد، في البلدان الأرثوذكسيّة، أن يخرج الكاهن مع الشعب المؤمن، بعد القدّاس الإلهي، صبيحة العيد، إلى بحيرة، أو شاطىء البحر، أو نهر، حيث يلقي صليباً معدنيّاً؛ فيتسابق الشباب في الغطس، من أجل العثور عليه، وإعادته إلى الكاهن. هذه العادة ما تزال حيّة حتّى اليوم.
غير أنّ الاسم الرسمي هو الظهور الإلهي، لأنّ أقانيم الثالوث القدّوس انكشفت للبشر، بوضوح، للمرّة الأولى، في أثناء معموديّة المسيح. فسُمع صوت الآب، قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب، الذي به سُررت”، والابن كان حاضراً يعتمد، والروح القدس ظهر على شكل حمامة، نزلت عليه. توضح ترتيلة العيد المعروفة “باعتمادك يا رب…” هذا الأمر بجلاء. أمّا ترتيلة التهيئة للعيد، فتتكلّم عن ظهور المسيح وسببه، فتقول: “المسيح ظهر مُريداً أن يجدّد الخليقة كلّها”.
كذلك، دُعي، في التقليد اليوناني القديم، بعيد “الأنوار”، لأنّ المعموديّة، بحسب الإيمان المسيحي، استنارة بنور الله. يسمّي تقليدنا الليتورجي الذين يتهيؤون لاقتبال المعموديّة ب “المستعدين للاستنارة”. ونصلي من أجل أن “ينيرهم الربّ بنور المعرفة وحُسن العبادة”. وقد جمع قنداق العيد الاسمين معاً: “اليوم ظهرتَ للمسكونة يا ربّ، ونوركَ قد ارتسم علينا”.
هيّأ القدّيس يوحنّا المعمدان الطريق للمعموديّة المسيحيّة. وكانت دعوته إلى التوبة هكذا: “هيّئوا طريق الربّ، اجعلوا سُبُلَه قويمةً”(مر1/3). لقد كانت معموديّته إعلاناً للتوبة، ودعوةً لترك حياة الخطيئة، بينما المعموديّة المسيحيّة هي لغفران الخطايا، واكتساب نعمة البنوّة الإلهيّة. أمّا السيّد فقد قبل، وهو البريء من الخطيئة، إتمام معموديّة يوحنّا اتضاعاً، “لكي يتمّم كلّ برّ”(مت3/15)، ويقدّم نفسه نموذجاً، للذين أتى من أجل خلاصهم.
يقول إنجيل متّى أنّ “السماء انشقّت” للحال بعد معموديّة يسوع. إنّها المرّة الأولى، التي يرد فيها هذا التعبير. فقد أُغلقت السماء في وجه الإنسان، بعد سقوط آدم وحواء منه، وها هي تنفتح، ثانية، بمجيء المسيح، الذي سيعيد للإنسان المجد الإلهي، الذي خسره، عندما رفض العيش في كنف الله ورعايته. كذلك، عند انشقاق السماء، سُمع صوت الآب، ونزل الروح القدس. يُظهر الله سرّه الثالوثي للبشر بوضوح. لأنّه، منذ تلك اللحظة، لم يعد يكتفي بدعوتهم إلى معرفته، وإنّما سيمنحهم، بالمسيح، الخلاص المنشود، ويفتح الطريق لهم ثانية. ما عادت السماء بعيدة؛ صار الله بيننا.
هذا العيد مناسبة لكي يسائل المؤمن نفسه، حول تفعيل نعمة المعموديّة، على مستواه الشخصي. فيوم معموديّتنا هو يوم ميلادنا الحقيقي، كوننا اكتسبنا فيه البنوّة لله، ولبسنا المسيح، كما تقول الترتيلة الشهيرة: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم”. فبعد المعموديّة، يصير المعتمد شبيهاً بالمسيح؛ وعليه تالياً أن يحفظ هذه النعمة، ويحافظ عليه، لا بل أن ينمّيها وينمو فيها، حتّى يصل إلى قامة ملء المسيح.
يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: “كما أنّ الطفل يأخذ من والديه إمكانيّة أن يصير رجلاً، ويرث الأملاك الوالديّة، عند بلوغه السن المناسب، لكنّه يخسرها إذا مات في أثناء ذلك، فإنّ المسيحي يحصل، بالمعموديّة، على القدرة لكي يصير ابناً لله، ووارثاً للخيرات الأبديّة، إن لم يمت في أثناء حياته الموت العقلي، الذي هو الخطيئة”. الخطيئة تجعلنا نخسر النِعَم التي حصلنا عليها بالمعموديّة.
هذا التعليم مدعاة للتأمّل بعظمة سرّ المعموديّة، وأهميته للمسيحيّين. يدعونا هذا العيد، إلى مراجعة أنفسنا ومسلكنا، بخصوص أمرين: الأوّل هو المحافظة على نِعَم المعموديّة، وتنميتها فينا، لئلا نخسرها. إنّه مناسبة للعودة إلى معنى المعموديّة، وشحذ الهمّة، لحفظها فينا، وعيشها بملئها.
أمّا الثاني، فهو تقويم ممارستنا لإتمام سرّ المعموديّة. وأوّل هذا التقويم الكفّ عن اختيار العرّاب أو العرّابة، بسبب صلة القرابة، أو الصداقة، أو الرغبة في “تبييض الوجه”. يجب أن نختار الشخص التقي المؤمن، الذي سيأخذ مسؤوليّته هذه على محمل الجد، ويكون أباً روحيّاً (أو أمّاً روحيّة) حقّاً. تقويم إتمام السرّ، يعني إخراجه من الفولكلور السائد في طريقة تعاطينا معه، واعتباره عملاً في غاية الجديّة والأهميّة. فنتهيء له بالصلاة والصوم، ونتمّمه بروح التقوى والتخشّع، ولا نعتبره مناسبة اجتماعيّة، ولا نؤخره لأسباب اجتماعيّة أو شخصيّة. إنّه حدث ولا أهمّ، يأخذ فيه ابننا أو ابنتنا أهمّ ما يمكن للإنسان الحصول عليه، ألا وهو نعمة أن يلبس المسيح ويصير ابناً أو ابنة لله.
تبقى قضية مباركة بيوتنا وتكريسها لله، بعد قداس العيد. إنّها تقليد شريف أصيل عند المسيحيّين. فالماء المقدّس سبيلٌ لاستجلاب البركة الإلهيّة للبيت، ولا يجب أن نخسرها. يتعرّض هذا التقليد الأصيل، اليوم، لعوائق كثيرة، خاصّة في المدن، بسبب توسّعها، وظروف المعيشة فيها، وعمل الزوجين. ممّا يحتّم على المؤمنين والكهنة معاً، السعي الجدّي لإيجاد الطريقة الفضلى، التي تؤمّن تحقيقه. كأن يبادر المؤمنون إلى الاتصال بالكاهن، من أجل تحديد الوقت المناسب لكليهما، لإتمام تبريك البيت، وأن يحثّ الكاهن المؤمنين، على إتمام هذا الأمر، بملاحقتهم والتواصل الدؤوب معهم.
لا نجعلنّ هذه الأعياد تمرّ دون الاستفادة منها روحيّاً. إنّها لأجلنا وُضعت.
المطران سابا (إسبر)
Metropolitan Saba Esper
https://www.facebook.com/BishopSabaEsber/posts/950500928376547:0