يعترف الكثيرون من الطلبة عن التردد على الصلاة وخاصة في المرحلة الثانونية والجامعية ثم يعتادون البعد عن بيوت الله في المراحل اللاحقة من حياتهم، إلا القليلون منهم. ويحتجّون: أما أنهم لا يدركون ما يتلى في المعابد فتصبح الصلاة لا معنى لها بالنسبة لهم أو إنما هي تكرارٌ واجترار. والبعض يحتج بسبب الإنشغال بالإستعدادات المدرسية والانهماك بالتحضير للفحوصات والامتحانات. وقليلة جداً هي أوراق الامتحانات التي تتناسب لغتها مع المستوى العلمي أو المدرسي وقد تأتي التعابير هابطة محبّة لا تنتمي إلى لغة العلم ولا الآداب. لأن الطلاب عادة يتوجهون إلى أدوات السمع بصرية ذات النصوص الركيكة والمخلوطة بالأخطاء اللغوية.
من أهم الأشياء التي تنقذ الطلبة من هذا الفراغ اللغوي الأدبي هي الصلاة. وهنا لا أقصد الصلاة الفرديّة التي يقيمها الإنسان أمام الله بل الصلاة الجماعية. تشكلت الصلاة الجماعية من نصوص الصلوات الفرديّة. فالجماعة المسيحية الأولى كانت تعتبر الصلاة الفرديّة شيء مهم بالنسبة للإنسان المؤمن. كان بين المؤمنين عدد من الكتاب والفلاسفة والأدباء والشعراء وغيرهم من أصحاب الملكات الأدبية والعلمية والفلسفية، هؤلاء عندما كانوا يؤدون أدوارهم في الصلاة الفرديّة كان المؤمنون يستلذون بما يقولون ويشعرون أن هذه النصوص تعبر أفضل تعبير عمّا يجول في خواطرهم ويطرق أبواب مشاعرهم، وموسيقيةُ النصوص صارت تحرك أحاسيسهم وتريهم جمالات الايمان التي لا ترى ولا يشعر بها بالنصوص البسيطة الركيكة فرأت الكنيسة أن تتلى هذه النصوص المنتقاة في الاجتماعات العامة تعويضاً عن النصوص الفرديّة العرضية (مع أنها لم تغيب الصلاة الفرديّة) إذ بعد أذكر يا رب أولاً أبانا ومتروبوليتنا… يقول الشماس متوجها نحو الشعب (والخاطرين في فكر كل واحد منّا جميعهم وجميعهن قاطبة) واعتبرت هذه النصوص مادة علمية في المدارس اللاهوتية وغيرها وأدبية، فعلِّمت اللغات من خلالها. وعشقها المؤمنون وحفظوها غيباً لأنهم كانوا يتلونها بشغفٍ وتركيز وتأكيد على المعاني والفحوى والمحتوى. ولما صارت الصلوات الجماعية عبارة عن نصوص ثابتة وحصلت على موافقة الكنيسة عامّة، احتوت نصوصها كل أشكال الأدب وضمَّت إليها نصوص من الكتب المقدَّسة. فصارت حاوية على التاريخ –والشعر –والنثر –والوصف –والسجع –والاستعارات والكنايات. وتعبر عن الحكمة والخبرة الإنسانية من خلال كتب الحكمة والأمثال والأنبياء. حاوية طرق التحليل في قبول المعلومات وسرد الحوادث لا يفرِّقها عن النصوص العلمية والأدبية شيء إلا ارتباط نصوص الصلاة بالحضرة الالهية وما تسكبه هذه الحضرة من نعمة تجعل من هذه النصوص أدبيّة بامتياز ولكن أيضاً مؤدِّبه. قد يظن إنسان أن هذه النصوص كغيرها، ولكن الذين عاشوها ويعيشونها بما تستحق من أبعاد ومفاهيم وحضور يعرفون أنها كلمات ونصوص تعبر عن واقع لا يدركه من لم يخترق حجبَهُ.
صارت الصلاة، بنصوصها التي تطول في بعض الأحيان، مدعاة للملل وعدم الحيويّة. هذا لأن الذين يصلون لا يعيشون الكلمات كما يجب ولا يتركون النعمة تفعِّلُها في عقولهم ولا أن تنزلها إلى قلوبهم.
هذه النصوص لم تكتب باديء ذي بدء نصاً أدبياً للمطالعة بل كتبت بهذه الروعة الأدبية محَّملة على أكف الحياة والمشاعر والعواطف وصدق المحبة نحو الله. كما أن عزوف الكثيرين عن الجديّة في تعلم اللغة وتلقف الأداب جعلها ليست بذات قيمة عند غير الجديين.
أيّ نص في الدنيا أكثف من نص صلاة أبانا الذي… أي الصلاة الربيّة. أيَّ صلاة أو قطعة أدبية ذات صيغة توسلية أكثف من صلاة القديس افرام السرياني (أيها الرب وسيد حياتي أعتقني من روح البطالة… وأن لا أدين إخوتي. لأنك المبارك إلى أبد الدهور أمين).
هل يعرف المؤمنون اليوم شيئاً عن كُتَّاب هذه الصلوات والأناشيد والأشعار. هل يعرفون الأنواع الشعرية والأدبية التي تحلَّوا بها فسكبوها في هذه القوالب العبادية المليئة بالحياة والحركة عامودياً وأفقياً.
لقد كتب هذه النصوص داود الملك والشاعر والموسيقي. وسليمان الملك الذي أعطي حكمة من السماء.
كتبها القديسون العظام والآباء معلمي المسكونة. باسيليوس الكبير، غريغوريوس الثاولوغوس، غريغوريوس النيصصي، يوحنا الذهبي الفم، يوحنا الدمشقي، مكسيموس المعترف، سمعان اللاهوتي الحديث وصفرنيوس الدمشقي وغيرهم كثيرون من الشرق والغرب عبر أجيالٍ عديدة تمتد على مساحة أربعة آلاف عام.
نسأل شبابنا وشاباتنا على استنباط محتويات هذه النصوص والصلوات لكي يسموا جميعاً بملكاتهم الأدبية ويغنوا معاجمهم الذهنية. فتكون التعابير ملك ايمانهم يستخدمونها كما يحبون ويليق وسيستعملون اللائق والصحيح وليس العبارات والرموز وكلمات واردة من الغريب عن اللغة. لأن نصوص الصلاة كتبت مضبوطة على قواعد الإعراب والصرف والنحو. وقد افتخر اليازجي عندما ترجم الكتاب المقدس أن يجد فيه أيٌّ كان خطأ لغوياً واحداً وكذلك فعل غيره، وهذا كان همُّ المترجمين والكتاب. والاعتياد على قراءة الصحيح والسليم واستخدامه يقود الإنسان إلى اكتساب ملكة اللغة الصحيحة والسليمة واستخدامها في أوقاتها وكما يجب. وهذه الفائدة اللغوية والعلمية هي من الكثير من فوائد الصلاة، الاجتماعية والصحية والروحية والنفسية إلخ.
فليعطنا الرب الإله جميعاً أن ندرك عظم محبته بما أعطانا ونثبت عليه ليثبت معنا خيره وتدوم علينا جميعاً نعمته لأننا بفكره تتفتح أذهاننا وبنوره نعاين النور.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، العدد 9، السنة 14، الأحد 1 آذار 2015