هذا أحد الآباء القديسين الذين اجتمعوا في المجمع المسكوني الرابع (٤٥١). والمجامع المسكونية هي المؤتمرات العالمية التي عقدها الآباء المسيحيون بين القرن الرابع والقرن الثامن الميلادي ليدافعوا عن الإيمان ويدفعوا عنهم هجمات الهراطقة.
واليوم، تعظيما للآباء وتذكارا، تقرأ الكنيسة الإنجيل من متى الذي يختتم بقوله: “من يعمل ويعلّم يُدعى عظيما في ملكوت السماوات” (متى ٥: ١٩).
يرشدنا الإنجيل إلى ان العمل شهادة لله في العالم والعمل يطهّرنا من الخطيئة. من أحبّ الله ينفّذ الوصايا وينقّي بها ذاته من الخطيئة ويصل إلى الرؤية المباركة حيث يحلّ الله فيه يتصرّف كما الله يتصرّف. ولكن هناك قوم وهبهم الله ان يكونوا معلّمين، ولهذا قال السيّد المخلّص: “من يعمل ويعلّم يُدعى عظيما في ملكوت السماوات”.
العمل إن كان فيك عظيما وإن طهّرك من كل شهوة يحرّك عقلك ولسانك. اذ ذاك تتكلّم بعظائم الله وتصبح بدورك إنجيلا حيّا اذا نظر اليه الناس يحيون. هذا هو الشيء الفريد في المسيحية، ان الله صار انسانًا وعاش بين الناس. قبل ذلك كان الناس يذهبون إلى الله عن طريق الأنبياء، وكان الله بالنسبة اليهم فوق، في السموات. لم يكن بينهم، كان فوقهم. كان يتحدث عن نفسه بكلمات. لكن لما صار الكلمة جسدًا “وحلّ فينا ورأينا مجده، مجد وحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًا” (يوحنا ١: ١٤)، عندئذ صرنا نرى الله في الجسد يأكل ويشرب ويتصرف مع البشر وهو إليهم وهم إليه بالحب. ثم هذا الإله المتجسد مات وقُبر وقام في اليوم الثالث حتى نسمو نحن به ونستنير.
المسيحية كلها انسان مشعّ. هي أولا المسيح المضيء، ولكنها ثانيا المسيحيون المشعّون. هناك قلّة بيننا كلّها نور ولا يبقى فيها أثر للظلمة. والذين أدركوا من النور مقدارا عظيما صاروا شهداءنا وصاروا القديسين، ليس لأنهم احتكروا القداسة ولكنهم شعلة مستمرة لنقتدي بهم ونصبح بدورنا قديسين حسب قوله المبارك: “كونوا قديسين لأني انا قدوس” (بطرس الأول ١: ١٦).
المسيحية لا يُفتش عنها في الكتب فقط. طبعا يجب ان نقرأ الإنجيل وما كتبه الآباء، لكن الأصل في المسيحية هي القدوة، والموعظة هي الواعظ، والكنيسة هي أعضاؤها وهي المحبّون من أعضائها. ولهذا، إن كانت المسيحية غير فاعلة بما فيه الكفاية، فما ذلك الا لأننا نحن منطفئون. ولكن إن عدنا إلى اللهب، إلى النور، بحياة بارة مقدّسة، فلا بدّ ان يستنير العالم.
لاحظوا قول الرب في إنجيل اليوم: لا تُخفى مدينةٌ موضوعة على جبل، ولا يوضع النور تحت المكيال (أي مكيال الحنطة) بل على المنارة ليُنير جميع الذين في البيت”. وايضا: “فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات”. آباؤنا كانوا يتلألأون نورا، ولكنهم لم يمجّدوا أنفسهم بل مجّدوا الآب الذي في السماوات.
ألا تذكرون قول يسوع عن اليهود انهم لا يستطيعون ان يؤمنوا؟ قال انهم “لا يستطيعون ان يؤمنوا لأنهم يطلبون مجدا بعضهم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لا يطلبونه” (يوحنا ٥: ٤١- ٤٤). نحن لا نطلب مجدا بعضنا من بعض، ولكننا نذهب إلى الله وإياه نمجّد. لذلك قال لنا القديس باسيليوس الكبير: “إن مدحكم أحد فردّوا المدح. لا يجوز ان تسمعوه لأنه يؤذيكم ويؤذي المتكلّم”. المادح منافق، والممدوح اذا أصغى اليه يتكبّر. ولذلك قُطع المدح في الكنيسة.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رعيّتي”، العدد 29، الأحد 19 تموز 2015