«تضيئون بينهم كأنوار في العالم» (فيليبي ٢: ١٥)(Φιλ.2:15): هذه هي دعوة القدّيس بولس الرسول إلى أبنائه في فيليبّي وإلى كلّ فردٍ منّا اليوم. ومن أدرى منه بالنور، وهو الذي وُلد من النور إنسانًا جديدًا على طريق دمشق، إذ «أبرق حوله نورٌ من السماء» (أعمال ٩: ٣)، بعد أن كان يحيا في الظُلمة.
وجّه قدّيسنا الأسير في روما هذه الرسالة، التي تتردّد فيها تهليلات الفرح ستّ عشرة مرّة وأصداء المحبّة إحدى عشرة مرّة، إلى الكنيسة التي أسّسها في فيليبّي، وهو يوجّهها اليوم إلى كلّ كنيسة في العالم، وتاليًا إلى كلّ أسرةٍ مسيحيةٍ في العالم، إذ «الأسرة المسيحيّة هي كنيسة صغيرة» على ما وصفها القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. فهو إذًا يخاطب أُسَرَنا داعيًا إيّاها:
لتعيش «كما يحقّ لإنجيل المسيح» (١: ٢٧)، ساعيةً نحو القداسة بكلّ أفرادها. فدعوة الأب والأمّ للأولاد «ليكونوا متمثّلين بهم» (٣: ١٧) مسؤوليّة ٌ كبيرة ٌ تقع على عاتقهما. فهُما في نظر أطفالهما صورة منظورة عن الله غير المنظور. فهؤلاء يرون الله المحبّ عبر محبّة أهلهم، والإله المتواضع عبر تواضعهم، فيعمَلون لاحقًا، حتّى من دون إدراك منهم، على التمثّل بهم.
لتعيش البساطة والقناعة، وتتّكل على الله في كلّ حاجاتها، فيردّد كلّ فرد من أفرادها مع القدّيس بولس: «أعرف أن أتّضع وأعرف أيضًا أن أستفضل. في كلِّ شيءٍ وفي جميعِ الأشياء تدرّبتُ على أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقص. أستطيع كلَّ شيءٍ بالمسيح الذي يقوّيني» (٤: ١٢-١٣).
لتعرف كيف تحدّد أولويّاتها في الحياة. ففي توجيه أبنائها لتحقيق النجاح في العالم لا تنسى أن تعلّمهم أنّ الكنز الأساس هو ذلك المحفوظٌ في السماء، فيستطيع كلّ منهم أن يقول «إنّي أحسب كلّ شيءٍ أيضًا خسارةً من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربّي الذي من أجله خسرت كلّ الأشياء، وأنا أحسبها نفايةً لكي أربح المسيح» (٣: ٨).
لتشغلها الأعمال الصالحة والأفكار النقيّة عن كلّ ما عداها، فلا وقت للحسد والخصام والنميمة، ولا وقت للتفكير بالمماحكات والسلبيّات والتوتّرات «كلُّ ما هو حقٌّ، كلُّ ما هو جليلٌ، كلُّ ما هو عادلٌ، كلُّ ما هو طاهرٌ، كلّ ما هو مسِرٌّ، كلُّ ما صيته حسنٌ، إن كانت فضيلةٌ وإن كان مدحٌ، ففي هذه افتكروا» (٤: ٨).
لتعجن أولادها بالحبّ والحنان فيختبروا في حناياها الوحدة والتضحية والتواضع، ساعين «ليفتكروا فكرًا واحدًا، ولهم محبّة واحدة بنفسٍ واحدة، مُفتكرين شيئًا واحدًا، لا شيئًا بتحزّب أو عُجبٍ، بل بتواضعٍ، حاسبين بعضهم البعض أفضل من أنفسهم» (٢: ٢-٣).
ألّا تُشاكل هذا الدهر في ضياعه وغربته وضلاله، فتربّي أبناءً واعين واثقين، «يفعلون كلّ شيء بلا دمدمةٍ ولا مجادلة، لكي يكونوا بلا لومٍ وبسطاء، أولادًا لله بلا عيبٍ في وسط جيلٍ معوّجٍ ملتوٍ…» (٢: ١٤-١٥).
لتُدرك أنّ الصحّة والمرض والموت ما هي إلّا محطّات يتوقّف عندها قطار الحياة السائر لا محالة إلى المحطّة الأخيرة. فلسان حالهم يقول «… يتعظّم المسيح في جسدي، سواء أكان بحياة أم بموت. لأنّ الحياة لي هي المسيح والموت هو ربحٌ» (١: ٢٠).
لتجابه التجارب القاسية والظروف الصعبة التي تواجهها بالصلاة الدائمة والشكر «لا تهتمّوا بشيءٍ، بل في كلّ شيءٍ بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعلَم طِلباتكم لدى الله» (٤: ٦).
لتكون قادرة رغم كلّ المصاعب التي تعترضها، على أن تفتح قلبها وتفرح بالربّ على حسب الدعوة «افرحوا في الربّ كلّ حين، وأقول أيضًا افرحوا» (٤: ٤).
لتشهد كلّ يومٍ، في وسط أبناء هذا الجيل، صارخةً «أنا وأهل بيتي فنعبد الربّ» (يشوع ٢٤: ١٥)، ويعيش أبناؤها «مُضيئون بينهم كأنوار في العالم» (فيليبي ٢: ١٥)، على رجاء أن يسمع كلّ منهم، في اليوم الأخير صوتًا من السماء قائلًا: «أنت ابني الحبيبُ، بكَ سُررت». (لوقا ٣: ٢٢).