“هلمَّ ورائي فأجعلكما صيّادي الناس”
هل يستطيع من يتعرف إلى يسوع أن يبقى صيّاد سمك؟ ونحن المسيحيّين بعد أن التقينا وجه يسوع الفادي والمتألمّ، هل نستطيع أن نبقى في أعمالنا وكأننا لأعمالنا؟ هل يمكن لعيْن رأتْ يسوع المسيح فعلاً، أن تبقى عمياء عن رسالة ليس من رسالة أشرف منها، وعن غاية للناس لا حقيقة سواها أصدق منها؟ نحن أمام الدعوة التي وجّهها يسوع إلى تلاميذه الأربعة الأوّل. لقد سبق لهؤلاء التلاميذ أن التقوا يسوع، كما يروي لنا يوحنا الإنجيليّ (1، 35) حيث لقّب يسوعُ سمعانَ بـ”بطرس”، وهناك تعرفوا على يسوع. وقبْل هذه الدعوة الحاسمة إلى الرسوليّة بقليل دخل يسوع إلى الحياة اليوميّة لتلاميذه، وحقّق لسمعان ذلك الصيد العجائبي؛ بعد أن تعِب الليل كلّه ولم يأخذْ شيئاً إلاَّ بعد أن ألقى الشبكة على كلمة يسوع (لوقا 5، 1-11). ودعاه يسوع مذّاك ليصير صيّاداً للناس.
لم يخاطب اللهُ الناس، خلال الوحي وتاريخ الخلاص، إلاَّ من خلال بعض الذين قبلوا دعوته ليصيروا صيّادين للناس؛ أي بواسطة بعض الذين استخدموا الشباك، كانت هذه الشباك ما كانت، ليحملوا الناس منها إلى يسوع. وأجمل الصفحات في الكتاب المقدّس، تلك التي تتمّ فيها حفلات زفاف بين الله، عريس كلّ نفس بشريّة، وبين بعض الذين تبعوه. فما أجمل ذلك الزفاف حين دعا الله موسى في العليّقة، وحين دعا أشعيا في الهيكل، والآن حين يدعو صيّادين، وغداً بعد أيّام حين سيدعو بولس على أبواب دمشق. لا بل ما أجمل تلك النفوس التي حين تعرّفت إلى الربّ، وسمعت دعوته، تركت الشباك والأب، والسفينة، وللوقت تبعته. إنّ الدعوة من يسوع ليست إجبارية، لأنَّه يريد أمثال هؤلاء السّاجدين لله بحريّة وروح. فالإنسان المدعوّ، قادرٌ دائماً على الرفض أو القبول. هكذا تحثُّنا إلى اتّباع يسوع استجابةُ إبراهيم، وعودةُ بولس، وتنبّهنا من ناحية أخرى ممانعة أولئك المدعوّين إلى العرس في أمثال يسوع.
كمثال هؤلاء السّاجدين للربّ بالروح، نشتهي نحن أن نكون. لأنَّ من يعاين الربّ يكتشف من نوره نور الحياة. وكم من نفس قرأت الكلمة الإلهيّة فاطّلعتْ منها على الغاية الإنسانيّة السامية وسمعتْ من خلال هذه الكلمة دعوة الربّ إلى الإرسالية والبشارة. لا بدّ أنَّ كلّ من يأخذ الكلمة سيعطيها حتماً، فمجاناً نأخذ ومجاناً علينا أن نعطي. سرّ عذوبة الربّ هو فيضها، وسرّ أريج الكلمة الإلهيّة هو فوحُها. من ذاق الربّ ودَفَنَه في داخله هو مخدوع، لأنَّ الربّ يخاطبُ الإنسان ليرسِلَه في العالم. وذلك لأنَّ المحبّة تتّجه إلى الآخر. من يقرأ الكلمة الإلهيّة ويحبّها حقاً، لا بدّ أن يحبّ الكرازة بها، أتحبّني يا بطرس؟ إذن لا بدّ أن يدفعَكَ حبُّك لي كي ترعى حملاني. هذا هو الوجه الأوّل للدعوة الإلهيّة. أنّها تحمل حقيقة إرساليّة لأنَّ الحبّ الإلهيّ فيَّاض.
أمَّا الوجه الثاني للدعوة الإنجيليّة، فهو التبديل العميق الذي يقلب الأوضاع الكيانيّة للإنسان. لأنَّ النداء الإلهيّ يتّجه نحو أعماق ضمير الإنسان، لا في ظروفه الخارجية فقط بل حتّى في عمق قلبه، فيجعل منه شخصاً آخر. الدعوة الإلهيّة لا تستبدل في الإنسان ظروفاً مثل ترك الأهل أو المهن أو الشباك، حين تستدعي ذلك، ولكنّها تستبدل فيه حبّه وقلبه وغايته. إنَّ استبدال يسوع كلمة صيّاد السمك بصيّاد الناس ما هو إلاَّ تأكيد لذلك.
هلمَّ ورائي فأجعلكما صيّادي الناس. المسيح يدعو: “هلمَّ ورائي”؛ والمسيحُ يغيِّر: “فأجعلكما”. المسيح يستبدل غاية العمل والمهن استبدالاً حين يعطي للصيّاد صيداً جديداً: الناس بدل الأسماك. والمسيح يؤكد أنَّ الغاية المثلى والأخيرة من كلّ مهنة، هي الناس، لأنَّه يدعو إلى الأمثل. يرسلنا الله إلى الناس، وهذا قد يقتضي حيناً أن نكون بعيدين عنهم أو أحياناً أن نتركهم، ولكنه في النهاية يرسلنا إليهم. لا يريد الربّ أن يرفعنا من العالم بل أن يحفظنا في العالم. الملح يُحفظ لكي يملِّح، والنور يُرفع لكي ينير، والمسيحيّ يرسل في العالم لكي يبشّر. إنَّ ترك الشباك والسفن ممكن حين نتبع يسوع هاجرين الأعمال في تكريس كُلِّيّ، وممكن حين نستخدم هذه كلّها في سبيله. غاية الدعوة هي الإرسال. والرسول هو المبشِّر، وامتهان الأعمال أو تركها يجب أن يكون من أجل الرسالة.
المسيح يدعونا، والدعوة تتطلّب نفساً شهمة تردّ على الحبّ بالاستجابة. إنَّ الاستجابة تقلبنا، وهذا التغيير قد يدفعنا لترك المهن. ولكن يمكنه أيضاً أن يدفعنا إلى استخدامها من أجل اسم الربّ حين نريد أن نمتهنها. لنترك لسنا مضطرّين أن نهجر. المطلوب هو صيد الناس. ليس للمسيحيّ الخيار في ألاَّ يسمع الدعوة الإنجيليّة “هلمَّ ورائي”، فهذه الدعوة هي للجميع. ولكن الخيار للمسيحيّ، والخيارات عديدة، في أن يختار الشباك التي يراها مناسبة له ليصطاد بها الناسَ للمسيح، آميـن.
المطران بولــــس (يازجي)، متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما