ماذا أراد الرسول بقوله إلى المؤمنين في كورنثوس: “أمنذ وقت طويل تظنّون أنّنا ندافع عن أنفسنا؟ إنّنا نتكلّم في المسيح عند الله. وهذا كلّه، أيّها الأحبّاء، لأجل بنيانكم” (الرسالة الثانية ١٢: ١٩)؟
عندما نستعرض أخبار المؤمنين في الكنيسة الأولى، نحسب أنّ دنياهم جميعًا كانت بألف خير. تُسكرنا حتّى الثمالة: “وكان كلّ شيء بينهم مشتركًا”. و”كانوا يحبّون بعضهم بعضًا”. الناس، قديمًا، نخالهم من غير طين. ونحلم، ونتأسّف من واقع مرير نراه بعيدًا عن الأصل بُعد الأرض عن الشمس!
هل لم يكونوا متشاركين ومحبّين فعلاً؟! بلى، كان في الجماعات المسيحيّة دائمًا من “صيّروا الأرض سماء”. ولكنّ روّادها لم يكونوا من نوع واحد. لم يكونوا عددًا! كان فيهم مَنْ يعشقون المسيح حبيبًا وحيدًا، وَمَنْ حسبوا الدنيا نفاية، وَمَنْ عاشوا ليشهدوا لله في كلامهم وسيرهم، وَمَنْ لم يُبالوا بحياتهم في سبيل ملكوته ومجده. وكان فيهم مَنْ ثبتوا عمرًا على عَرَجِهم. وكان مخلّعون، وَمَنْ يضربهم “الخصام والحسد والسخط والمنازعات والنميمة والثرثرة والوقـاحة والبلبلة”، وَمَنْ خـاصموا الحقّ ورجاله، وسعوا إلى أن يذلّوهم، ويحزنوهم، وَمَنْ “لم يتوبوا ممّا ارتكبوا من الدعارة والزنى والفجور” (٢كورنثوس ١٢: ٢٠ و٢١).
كنيسة كورنثوس كانت مزيجًا من هذا كلّه. على قداستها الظاهرة، تربّصت بها الأفاعي!
هذا، مقبولاً، يُسهّل علينا أن نقرأ كلمات بولس المثبتة أعلاه. فهذه تبيّن أنّ ثمّة في تلك الكنيسة الناشئة مَنْ سكنه، وقتًا قصيرًا أو طويلاً، ظنّ سوء بِمَنْ لا يُظنّ به سوء. هل أراد الرسول، بما قاله، أن يدين قرّاءه؟ لا، فنحن يجب أن نستدلّ منه على أخلاقه الطيّبة: على أنّه واجههم بما عرفه، وأنّه ينتظر أن يُصلحوا أنفسهم. لِمَ أضفنا هذا الاستدلال؟ أوّلاً، لم نضف شيئًا. فالرسول، لم يخالطه، مرّةً، أن ينتشي بِمَنْ أدركوا برّهم. وهذا يجب أن يحكم قراءتنا أقوالَهُ كلَّها. إنّه يعرف أنّ الناس يمكن أن يُخطئوا، أي يعي، تمامًا، أنّ إصلاحهم من مسؤوليّته. هؤلاء، الذين ظنّوا به سوءًا لئيمًا، تُشعرنا كلماته إليهم بأنّهم كلّ شيء عنده! وإلاّ لِمَ كلّمهم بودّ ظاهر؟ يعرف الرسول أنّ قيمة الكنيسة ليست في أبرارها فحسب، بل، دائمًا، بقدرتها على قبول الخطأة ومساعدتهم على أن يلتحقوا بالحقّ. هذا كلّه يمنعنا، لا سيّما في هذه الآية، من أن نراه يحتقرهم، وينبُذهم. كلماته تكشف أنّهم قد أخطأوا كثيرًا، بلى! لكنّها، أيضًا، تظهر أنّه ما زال يريد أن يتكلّم معهم “في المسيح عند الله”، ما زال يراهم أحبّاءه، وما زال يريد أن يبنيهم.
ما قلناه، يؤكّد أنّ الحياة الكنسيّة مسيرة ليست لها نهاية في الأرض. أهل كورنثوس قد أخطأوا كثيرًا، قلنا. وهذا ليست نهاية الدنيا. دنيا الناس تنتهي عندما يُصرّون على خطاياهم (القدّيس إسحق السريانيّ، نسكيّات، المقالة الثلاثون). وتنتهي قَبْلاً، أي عندما يرى الواعون في الجماعة عراء أترابهم، ويتركونهم في برد عرائهم. بولس لم يفعل ذلك. عرف أنّهم يتّهمونه بأنّه أقلّ شأنًا من “الرسل الأكابر” (١٢: ١١)، أي ليس واحدًا من الاثني عشر الذين اختارهم الربّ يسوع. وقالوا فيه إنّه ارتضى الخدمة، ليأخذ أموال المؤمنين! ماذا فعل؟ هل رماهم من عينيه؟ لا، لا! ما فعله أنّه انحنى على ضعفهم. ذكّرهم بأنّ شأنه معهم شأنان. شأن أن يُكلّمهم في المسيــح (هـل تعنـي، هنـا، أنـّه سيُعيـد بشـارتـهم؟)، وأن يبنيهم بمحبّته الراهنة. أي ردّ اتّهامهم بكشفه أعلى علامات الرسوليّة: “صبره التامّ” عليهم (١٢: ١٢).
على مَنْ صبر بولس؟ على أشخاص لم يُشوّهوه ويتلسّنوا عليه فقط، بل، أيضًا، غرقوا في غير خطيئة (١٢: ٢٠ و٢١). على مَنْ؟ على أشخاص لطّخوا بياض معموديّتهم. أشخاص قبلوا أشنع الخطايا، وفتحوا آذانهم وعيونهم وقلوبهم على شرّ هذا العالم وعلى “الرسل الكذّابين” (١١: ١٣) و”الإخوة الكذّابين” (١١: ٢٦). كيف استطاع أن يسمّي هؤلاء أحبّاء؟ كيف بقي قادرًا على أن يكلّمهم؟ هذه براعة الأب مع أبنائه (٦: ١٣؛ أنظر أيضًا: ١كورنثوس ٤: ٤١ و١٥). بلى، في كلامه لوم، وفيه مرارة، وفيه أسف وتوبيخ. إنّما ليس فيه حكم أخير. ليست فيه إدانة. الأب لا يدين أولاده، بل يبقى يثق بهم “ثقةً كبيرة” (٧: ٤). يبقى يسعى إلى أن يسترجعوا كلّ نقاوة، أي أن يستعيدوا “الطاعة في كلّ شيء” (٢: ٩(.
يبقى يريدهم أن يخلعوا عنهم رداء كلّ شكّ فيه، ويفهموا أنّه “لا يطلب ما لهم، بل إيّاهم يطلب” (١٢: ١٤). يبقى يريدهم أن “يعرفوا بأنفسهم أنّ المسيح فيهم”. وهذا ما أراده بولس لهؤلاء. أرادهم أن يفهموا أنّ فرصتهم ما زالت سانحة (١٣:
٢). أَعلمهم أنّ الربّ أولاه سلطانًا للبنيان لا للهدم (١٣: ١٠). ويبقى أن يستفيدوا من صبره عليهم. فليس مراده أن يُقبل، بل أن يفعلوا الخير أبدًا، وإن رُفض هو (١٣: ٧)!
عندما نقرأ هذه الآية، يجب أن نتعلّم ألاّ نقطع رجاءنا بالإخوة، وإن رأيناهم يغرقون في الخطايا من أعلى رؤوسهم حتّى أسفل أقدامهم.
هذه الكنيسة المجيدة لا تقوم على سوى هذا الخلق. هذه ليست ثقةً بأيٍّ من الناس، بل بالله الحيّ. في هذا العالم، حكم الله أن نحبّ الكلّ، وننشر عطر المسيح. الذين قالوا في الجماعات الأولى إنّهم متشاركون مُحبّون لم يكذبوا، بل قالوا الحقّ كلّه، بل شهدوا للحقّ الذي رأوه يتخطّر، كالعروس، أمامهم. كم كان عدد شركة المحبّين؟ هذا ليس بمهمّ! الأهمّ من المهمّ أن نبقى (نحن) نُدرك أنّ الله قادر، بصبر مسيحه (علينا وفينا)، على أن يقيم، في غير زمان ومكان، “خلقًا جديدًا” (٥: ١٧).