في سِفر الأمثال، أن: “مَن ازدرى بالكلمة يُخرب نفسه” (13:13). ثمّة مَن بها يبالون، وثمّة مَن لا يبالون!. القول عن كلمة الله، أو، بتعبير أدقّ، عن الإله الكلمة، من حيث إنّه لا ما يفصل الله عن كلمته!. تَقُلْها تَقُلْه!. تُعْطِها تُعْطِه!. روحٌ الكلمة!. والرّوحُ روحُ الحياة!. نَفَسُك!. بدونه لا تكون!. مأساة الإنسان أنّه لا حياة له في ذاته!. لذا يَختلق الحياة اختلاقًا لكي لا يموت أسًى!. يلهو!. وفي اللّهو عبث!. داوني بالّتي كانت هي الدّاء!. الحاجة إلى واحد!. إن تُضِعْه تَضِعْ!. هذه هي الظّلمة!. أنّى لك أن تبحث عن النّور في الظّلمة؟ ولو بحثتَ أتجدْ؟ ولو وجدتَ، ماذا تجد؟ ميراثَ عدم!.
لِمَ لا يبالون؟ لأنّه ليس الحقّ فيهم!. إذًا مكتفون بالباطل!. وباطلهم حقّ في عيونهم!. مَن يقدر أن يُقنع مَن؟ العقل، إذ ذاك، أبله!. إذا لم يكن القلب إلى القلب، فما المنفعة؟ وصيّة القدّيس بورفيريوس الرّائيّ كانت، إلى المنتهى، أحبَّ الرّبّ يسوع، إذ ذاك ترَ وتفرح!. كيف أُحببك وأنا ملئي نفْسي؟ إن كنتُ لا أرى إلاّ نفسي فيك، فكيف أراك؟ أنّى لي أن أعرفك؟ إن لم أبحثْ عنك فكيف أجدُك؟ أجدني!. لذا أختلقك!. تخلقني فأختلقك!. فما المحصّلة؟ أوهام!. أوثان!. أقيم متمرِّغًا في أوحالي، حتّى أستفيق!. ومتى أستفيق؟ متى عجزت، متى تلاشيت، متى بلغت عمقَ الضِّعة، متى أُهِنْتُ في كياني، متى مَلِلْتُ نفسي، متى بلغتُ حدَّ العبث، طريقًا مسدودًا، متى وجدتُني في فراغ، ممتلئًا جراحًا… متى استنفدتُ أوهامي!. يومذاك، أعود إلى نفسي، أَعِيكَ، أعودُ إليك!.
لكلّ نفس حكاية، ولكلّ قلب مسير!. الله يُعين إذا كنتَ به تستعين!. أمَا نور الشّمس إليك؟ ولكن، كيف ينفعك إن لم تكن عينُك إليه؟ لعبة الخالق والمخلوق لا تكافؤ فيها!. دودة، أنا، لا إنسان!. ما خَطبي؟ جهالتي بإزاء حكمة العليّ!. النّملة تناطح الجبل وهو يحيد عنها لطفًا ورِفقًا، فتنعطفَ عنه إلى هناك فإلى هنالك، فتلقاه منعطفًا عليها بأرفق، أبدًا، حتّى تعيا، فيريها ثقبًا تدخل فيه إلى الدّاخل!. إذ ذاك، تذكر المزمور القائل: “ها أنا الآن أرقد وأنام بسلام، لأنّك أنت وحدك يا ربّ الّذي أسكنتني في مسكني بأمان” (4: 8)!.
أيتغيَّر الإنسان؟ ما لم يتغيَّر قلبُه فلا شيء، في العمق، فيه، يتغيَّر!. فقط يتلوّن!. يتفاعل ومحيطه لينال مأربه منه ويأمن شرّه!. خوفُه الرّاسخ مَن يبدّده؟!. لا آلم من اليُتم!. يتيمَ الله تراني!. فقير أنا وفي الشّقاء منذ حداثتي!. هذه سيرتي، يا دهرُ، ميتّمٌ حتّى أُتيَّم!. وحده حبّ إلهي يطّرح خوفي إلى خارج!. هذا تذيقني إيّاه فأنتشي، فتذيقني إيّاه من جديد، فأنسى فأتعب ولا تتعب، وأنت تعيد الكرّة أبدًا!. ما كنتُ لأطلبك لو لم أعرفك مرّة ومرّات!. وحدك الثّابت فيّ وإليّ، وأنا في طيشي، عنك، في راحتي، وإليك، في ضنكي!. في عيني، طريقي طويلة، ولست مدرِكًا تعاريجَها!. كلّ لحظة جديد!. تخبطني الأيّام خبط عشواء، كمَن حطّه السّيل من علو!. وما، في عينيك، أمرٌ عشواء، لأنّك تراني لديك، حتّى قبل أن أصير إليك!. أحكمُ عليك في ظلمتي لأنّي مستغرِب عنك، ولا تحاكمني لأنّي مقيم أبدًا في نورك، في حبّك، ولا تراني إلاّ على فراش وثير في خِدر قلبك، إذ تعلم ما أتيتُه على نفسي من أتعاب، جهلاً وغباء!. تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم!. الحلّة الأولى أعددتَها لي، منذ الدّهر، ولا تراني إلاّ فيها؛ لكنّك لا تنتظرني كأنّي بعيد عنك، لأنّك تعرف، في عمق محبّتك، أنّك فيّ وإليّ كلّما عَمُق شرودي عنك!. بعادي عنك، في عينك، يدنيني منك… بالألم!. نعمتك تأبى أن تفارقني!. تواكب جراحي، كلّ حين، لتستردّني إلى العافية!. “رحمتك تتبعني جميع أيّام حياتي”!.
صليبي، نيرُك اللّيّن، الّذي لا اشاء أن أحمله لأتّبعك، أستعيض عنه بصليب خطيئتي؛ نيرٌ ولا أقسى؛ وسيادةَ حبّك الرّاحمة أبيعها بسيادة أهوائي، تنهشني وتسحقني!. “أيّامي فنيت كالدّخان… ذويتُ كالحشيش وجفّ قلبي…” (مزمور 101: 3 – 4)!. “ويحي، مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟!.” أهوائي توهن مشيئتي حتّى لا أحبّ أحدًا إلاّي!. ولكنْ، نفسي الّتي خيِّل إليّ أنّي أحبّها باتت ثقلاً عليّ!. تزوّجتُ أهوائي فصرت بها من بنات الهوى!. الآن علمت عِظَم حرقة المرأة الخاطئة، مرّةَ النّفس، حين حضرتْ لدى السّيّد، في بيت سمعان الفرّيسيّ، وكانت تذرف دموعًا من نار استنبعتها من جحيم نفسها المبيعة في سوق نخاسة الشّيطان!. إلى مَن كان يمكن أن تذهب وإيّاي، كأعميَي أريحا، إلاّ إليك، لأنّ كلام الحياة الأبديّة عندك!. ارحمنا يا سيّدُ، يا ابن داود!.
الكلمةَ، الكلمةَ!. حتّى متى يا نفسُ لا تسمعين؟!. يا ليت كياني جبًّا لا يتردَّد فيه إلاّ صوتك، سيِّدي!. يكفيني أن أسمعك!. ليتني سمعتُ، إذًا لأبصرت وتكلّمت!. “نجّني فإنّي فقير ومسكين وقلبي مضطّرب في داخلي” (مزمور 108: 22)!. خربَتْ نفسي لأنّي لم أسمعك!. رجائي أنّي خروفك الضّال… ليتقدَّس اسمك، كما في السّماء كذلك على الأرض، عليَّ!.
ما أغباني؟!. كنت أشاء، أبدًا، أن أتكلّم، وأنا غيّ اللّسان!. كيف للساني أن ينفتح ولمّا يمسّه إصبعك المبلّل برَطَبِ روحك، مجبولاً بترابيّتي؟!. لذا كلّ كلامي كان غضبًا وعنفًا وتفَهًا!. كم اختلقتُ قضايا؟!. استحلتُ بؤرة قيح!. ولطالما عملتُ على أن أرفع النّير عنّي، فوجدتني، كلّ مرّة، أثقّل على كواهل عبيدك، أولئك الّذين أوليتني الاهتمام بهم قائلاً: طوبى لمَن يعتني بالمسكين والفقير… الرّبّ يعينه على سرير ألمه، على سرير أهوائه، على سرير مرض خطيئته!.
إن يُفرِغ الإنسانُ نفسَه من أناه، من ولههِ بذاته، إذ ذاك، يُحبِبْ!. يمتلئ منك ومن أحبّتك!. يصير، إذ ذاك، إنسانًا!. يتحقّق!. في ذاته، مشروعٌ ناقص هو!. شمعةٌ برسم النّور!. أذن برسم السّماع!. لسان برسم الكلام!. هيكل برسم الرّوح!. ملكوت برسم الملك!. هلمّ واسكن فينا!. افتحوا أيّها الرّؤساء أبوابكم، وارتفعي أيّتها الأبواب الدّهريّة ليدخل ملك المجد!. أنا العرس لديك!. ذبحتَ لي العجلَ المسمّن!. الفرح أُعدّ!. ولمّا أشأ أن آتي إليك!. إلى أين أهرب من وجهك؟!. رغم ذلك تقتبلني، تبيّض صفحتي!. فقط، إن قلتُ: أخطأتُ إلى السّماء وأمامك!. ولستُ مستحقًّا، بعدُ، لأن أُدعى لك ابنًا!. اجعلني كأحد أجرائك!.
ربّك لا يسيء إليك ولا ينتقم منك!. مصلوب عليك!. اغفر لهم يا أبتاه، البارحة واليوم وغدًا، لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!. كلّ هذا الّذي عانيتَه، يا بنيّ، ويا بنيّتي، منكَ، ومنكِ!. الكذّاب أوحى ويوحي لكما به وأنتما صدّقتماه وتصدِّقانه!. بؤبؤُ عيني أنت، رائحةُ عطري، أريجُ محبّتي!. لأجلك قدّستُ ذاتي، أفرغتُ نفسي، اتّخذتُك!. أحزانَنا حمَلَها، وأوجاعنا تحمَّلها!. مجروح لأجل معاصينا!. مسحوق لأجل آثامنا!. الرّبّ وضع عليه إثم جميعنا!. ضُرب من أجل ذنب شعبي!. سُرّ الرّبّ أن يسحقه بالحزن لأنّ مسرّة الرّبّ بيده تنجح!. سكب للموت نفسه سكيبًا لأنّه أحبّ!. هذا أنا!. هذا صليبي!. صليبي ليرفع صليبَك!. به أعطيك حياتي!. أأدعوك إلى الموت؟!. هل دعا سيّدٌ المَسُودَ عليهم لديه إلى اتّباعه في الموت؟!. أما تفهم أنّ صليبي قيامتُك وأنّ موتي حياتك!. مَن آمن بي وكان حيًّا فلن يرَ الموت إلى الأبد!. حتّى متى تأبى أن تثق بي؟!. أن تؤمن؟!.
يا غبيّ، اللّيلة تُطلب نفسك منك، فهذه الّتي أعددتَها لمَن تكون؟!. أصليبي، حبّي، يرعبكِ؟!. “لحظةً تركتكِ، وبمراحم عظيمة سأجمعكِ”!.
الجبال تزول والآكام تتزعزع!. أمّا إحساني فلا يزول عنكِ (إشعياء 54)!. لا تطيلي آلامَك، بعدُ، يا أمّةٌ غبيّة!. هذا ميراث عبيد الرّبّ وبرّهم من عندي، أنا ميراثهم يقول الرّبّ!. كفاكم عبثًا واختلاقًا وأوهامًا!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 20 أيلول 2015