لا ريب في أنّ المسيحيّة بلغت مدينة حلب وانتشرت فيها منذ القرن الأوّل للميلاد. فحلب جارة أنطاكية حيث “أُطلق على التلاميذ لأوّل مرّة اسم المسيحيّين”، وفق ما ورد في سفر أعمال الرسل (١١: ٢٦). ولا بدّ من أن تكون البشارة الإنجيليّة قد امتدّت من أنطاكية إلى حلب وضواحيها. غير أنّنا لا نعلم شيئًا عن تاريخ المسيحيّة في حلب قبل مطلع القرن الرابع الميلاديّ. فأوّل أسقف حلبيّ ورد ذكره في مصادر التاريخ الكنسيّ إنّما هو أفسطاثيوس الذي حضر المجمع المسكونيّ الأوّل المنعقد في نيقية (عام ٣٢٥) بصفته أسقفًا لأنطاكية، وقد كان من قبل أسقفًا لحلب.
يسعنا القول، إذًا، أنّ المسيحيّين في حلب كانوا قد بلغوا، حتّى ما قبل مطلع القرن الرابع، شأنًا رفيعًا من حيث العدد والتنظيم، فصار لهم أسقف خاصّ بهم يتولى أبرشيّة مستقلّة. حتّى أنّ “لائحة الرتب” في الكنيسة الأنطاكيّة (وُضعت نحو عام ٥٧٠) كانت تعتبر أبرشيّة حلب – أو بيريه كما دعاها اليونانيّون – أولى أبرشيّات الكرسي الأنطاكيّ. وقد حفظت لنا المصادر التاريخيّة الكنسيّة أسماء تسعة من الأساقفة الذين رعوا أبرشيّة حلب قبل الفتح العربيّ، وهم إلى أفسطاثيوس: كيروس، ملاتيوس، أناطوليوس (٣٦٣)، ثيوذوطس، أكاكيوس أو أقاق الذي دامت أسقفيّته فترة طويلة تتجاوز الخمسين عامًا (٣٧٨-٤٢٢) وتوفّي وله من العمر مائة وعشر سنوات، ثيوكتسطس (٤٥١)، بطرس (٥١٢)، أنطونينوس (٥١٨)، ميناس (٥٣٦)…
بيد أنّ بعض مصادر التراث الكنسيّ تذكر أنّ أوّل مَن بشّر بالإنجيل في حلب إنّما هو القدّيس الرسول سمعان القانويّ المعروف بالغيور. وثمّة أسطورة كان يتناقلها ويتباهى بها أبناء حلب، مسيحيّون ومسلمون، عن مجيء السيّد المسيح نفسه إلى حلب. فالمؤرّخ العربيّ ابن شدّاد ينقل عن ابن شرارة النصرانيّ، أنّه كان في وسط مذبح الكنيسة العظمى في حلب، التي تحوّلت فيما بعد إلى مسجد، ومن ثمّ إلى مدرسة لتعليم الفقه الحنفيّ، وعُرفت إلى يومنا هذا باسم “المدرسة الحلاويّة”، “كرسيّ ارتفاعه أحد عشر ذراعًا من الرخام الملكيّ الأبيض”، قيل إنّ “عيسى عليه السلام جلس عليه، وقيل جلس موضعه لـمّا دخل حلب. وذكروا أيضًا أنّ جماعة الحواريّين (التلاميذ) دخلوا هذا الهيكل”.
وقد زعم ابن شدّاد أنّه كان في حلب، قبل الفتح العربيّ، “لا أقلّ من سبعين كنيسة”. وإن كان في كلام ابن شدّاد بعض من المبالغة، فإنّنا نستطيع القول إنه كان في داخل المدينة عدد لا بأس به من الكنائس، وبخاصّة أنّ معظم سكّانها قد اعتنقوا المسيحيّة منذ النصف الثاني من القرن الرابع، أي قبل الفتح العربي بنحو ثلاثمائة عام. ومن هذه الكنائس وآثارها اليوم يمكننا ذكر كنيسة كانت قائمة على حافة السور حيث اليوم “جامع القيقان” الذي قال عنه أحد المؤرّخين: “قيل إنّ هذا المسجد كان مرقبًا يقيم فيه أقاق… ثمّ جُعل مسجدًا”. وما أقاق هذا إلاّ أسقف حلب أكاكيوس الذي كان مقرّ إقامته حيث موضع المسجد.
أمّا الكنيسة البيزنطيّة الأكيدة التي ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، وهي أقدم كنيسة في حلب، بل هي أقدم أثر عمرانيّ فيها، فهي “الكنيسة العظمى”، أو “الكاتدرائيّة البيزنطيّة”، التي تحوّلت سنة ١١٢٤ إلى مسجد، ثمّ حوّلها السلطان نور الدين زنكي سنة ١١٤٩ إلى مدرسة عُرفت باسم “المدرسة الحلاويّة”. وينسب معظم المؤرّخين العرب بناء هذه الكنيسة إلى القدّيسة هيلانة، والدة القدّيس قسطنطين الكبير. وثمّة تقليد شعبيّ لدى الحلبيّين يحاول أن يرى تحريفًا لاسم هيلانة في تسمية المدرسة “الحلاويّة”. غير أنّ هذه التقاليد لا ترتكز إلى أيّ مستند تاريخيّ، فالقدّيسة هيلانة لم تمرّ بحلب، ولا شيّدت فيها أيّ كنيسة. أمّا التقليد المسيحيّ القديم فينسب بناء هذه الكنيسة العظمى، التي كانت على اسم القدّيسة مريم والدة الإله، إلى الأسقف أقاق، أو أكاكيوس.
قال ابن شدّاد في كتابه “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة” في روايته عن الكنيسة العظمى: “يقال إنّه كان بحلب نيّف وسبعون هيكلاً للنصارى، منها الهيكل المعظّم عندهم الذب بنته هيلاني أمّ قسطنطين باني القسطنطينيّة، وهي التي بنت كنائس الشام كلّها والبيت المقدس. وهذا الهيكل كان في الكنيسة العظمى، وكانت هذه الكنيسة معظّمة عندهم، ولم
تزل على ذلك إلى أن حاصرت الفرنج حلب في سنة ٥١٨ هجريّة (١١٢٤ م)… فعمد الفرنج إلى قبور المسلمين فنبشوها. فلـمّا بلغ القاضي ذلك أخذ من كنائس النصارى التي كانت بحلب أربعًا، وجعل فيها محاريب منها هذه الكنيسة التي قدّمنا ذكرها، فجعلها مسجدًا. فاستمرّت على ذلك إلى أن ملك الملك العادل نور الدين بحلب، فجعلها مدرسة لتدريس مذهب أبي حنيفة”.
يضيق بنا المجال كي نعرض لتاريخ المسيحيّة في حلب، لكنّنا شئنا في هذه المقالة المتواضعة أن نذكّر بأنّ المسيحيّة قد استمرّت في هذه المدينة، على الرغم من كلّ الظروف الصعبة والضيقات والحروب والاحتلالات. ونحن نصلّي لكي يعود السلام إلى هذه المدينة العريقة وإلى سوريا كلّها. ورجاؤنا أن يعود سيادة مطران حلب بولس، مع رفيقه المطران يوحنّا السريانيّ، إلى خدمتهما سالمين معافَين.