لافت، في الإنجيل، وصف الربّ شعبَه بالقطيع الصغير. “لا تخف أيها القطيع الصغير فأبوكم السماوي شاء أن ينعم عليكم بالملكوت” (لو 12\32). يبدو أنّ قطيع المسيح ليس وافر العدد. قد يصحّ وصفه بالصغير آنذاك، إذ إنّ تلاميذه ما كانوا كثراً. ولكن الوصف إيّاه يصحّ في كلّ وقت ومكان، إذ إنّ الأمناء للربّ ليسواالعدد الأوفى بين البشر، وحتّى المؤمنين منهم. فالذين يحملون اسمه، له المجد، كثر. ولكن هل العبرة بحمل الاسم فقط؟
يتابع السيّد في وصفه هذا فكرة تردّدت في العهد القديم مع ابراهيم، وظلّت تتتابع وتتّضح مع الزمن، وصولاً إلى العهد الجديد. يصف العهد القديم الأمناء للربّ بالبقيّة. فمسيرة الله، مع البشريّة، اتّخذت منحى تطهيريّاً تصاعديّاً، متزامناً مع اقتراب زمن العهد الجديد. طبعاً ما كان كلّ الذين حملوا لواء الله، وعبادته مخلصين، لكن،وفي كلّ جيل،كانت تظهر صفوة من الأبرار، الذين استمروا، وكانوا يزدادون برّاً،حتّى زمن مجيء المسيح. هؤلاء يسمّيهم الكتاب المقدّس “البقيّة الأمينة” أو”البقيّة الباقية”.إنّهم الذين أخضعوا مشيئتهم لمشيئة الله، و قبلوا دعوته على حقيقتها، فاستطاعوا قراءة علامات الأزمنة إيمانيّاً، وعرفوا قصد الله، في زمن كاد المؤمنون يستبدلونه بمقاصد البشر وتفسيراتهم.
كانوا قلائل، ولعلّ مسيرة الله مع البشر بحسب العهد القديم، كانت من أجل ظهور هذه البقيّة، التي ستصل إلى ذروتها في والدة المسيح. فتواصُل برّ أولئك، الراسخين في الأمانة، هنا وهناك، أعطانا مريم العذراء،وأمثال يوسف النجار ويوحنا المعمدان ويوحنا الإنجيلي وكثر ممّن شابههم.
لماذا يبقى الأمناء قلائل، مع أنّهم الخميرة التي تحفظ العجين كلّه؟
الأمين حتّى النهاية ييقى ملتصقاً بالله وبكلمته، لذلك يعطيه الله نعمة قراءة مقاصده التي لا تُدرَك، أو الثبات في الأمانة، ولو لم يفهم المقاصد الإلهيّة إلى حين.
عندما كانت قوّات الإمبراطوريّة الآشوريّة تقترب من فلسطين، وصار الخطر جسيماًعلى السكان،بادر النبي إشعياء إلى شحذ الهمم، وتقوية المعنويّات بالإيمان. فنادى بتوبة حقّة،قائلاً: “في التوبة والطاعة خلاصكم، وفي الأمان والثقة قوّتكم”(أش30\15). وقاد ملك صالح حركة إصلاح ديني كبير، بغية تنقية العبادة، والعودة عن الارتداد، الذي كان قد عمّ، عبادةً وسلوكاً. بدا موقف النبي إشعياء مستغرباً، إذ إنّه لم يعر الإصلاح اهتماماً، ولم يتحدّث عنه. لأنّه اعتبر كلّ إصلاح رسمي ومفروض، إنّما هو إصلاح خارجي، لا يطال قلب الإنسان. يريد الله إصلاحاً داخليّاً يغيّر قلب الإنسان. سوف يقود الأنبياء هذا التعليم، الذيسيكتمل مع المسيح، حينما يصير الدين المطلوب دين النقاوة الداخليّة، التي تكون الأعمال الصالحة تعبيراً وانعكاساً له، وليس غاية بحد ذاتها.
آمن إشعياء، أكثر فأكثر، بأنّ بقيّة قليلة فقط، من المؤمنين، سوف تسمع وتخلص من الدمار. “لولا أنّ الربّ القدير ترك لنا بقيّة من الناجين، لصرنا مثل سدوم، وأشبهنا عمورة”(أش1\9).”لن ترجع منهم إلا بقيّة “(أش10\22). “فأقمْ صلاة من أجل البقيّة الباقية من الشعب”(أش37\4).
تكرّر الأمر، مع النبي إرمياء، بعد مئة سنة، حين حاصر البابليّون المدينة المقدّسة، وصارت بحكم الساقطة عسكريّاً، ونادى الملك بإصلاح ديني، أي بتوبة. طلب تطبيق الشريعة، وكان أمر تحرير العبيد أحد القضايا المطلوبة. سارع الأغنياء تحت الخوف، والخبث أيضاً، إلى تحرير عبيدهم. فتبيّن،سريعاً، أن تنفيذ هذه الوصيّة لم يكن بدافع التقوى والأمانة للربّ ولشريعته، بقدر ما كان استرضاء له بدافع الخوف، وخلاصاً من عبء إطعامهم، في زمن الحصار، حينما بدأت المجاعة تهدّد المحاصَرين. لذلك ما إنْ فكّ نبوخذ نصر حصاره، لاضطراره إلى القتال في مكان آخر، وتنفس الناس المحاصَرون زوال الخطر، حتّى سارعوا إلى إعادة استعباد عبيدهم.
وعلى غرار إشعياء،كذلك النبي إرمياء ما بدامتحمّساً للإصلاح، ولم يقف ضدّه، بل كان إيجابيّاً تجاهه. لكنّه ما رآه سيحقِّق التوبة المنشودة، وتالياً الخلاص المأمول. لقد أكدّالنبيّ على أنّ الإصلاح، الذي لا يطال القلب ويبدأ منه، يبقى إصلاحاً خارجيّاً هشّاً، وقابلاً للعطب السريع. كان النبيّ مقتنعاً بأنّ الإصلاح الفعّال الحقيقي لا يُفرض بالقوة، ولا يُنَفَّذ بمراسيم وشرائع، بل بإصلاح جذري يطال القلب. فدعا إلى ختانة القلب لا الجسد “افلحوا أرضكم غير المفلوحة ولا تزرعوا بين الأشواك. عاهدوا الربّ في قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم” (أرم4\3-4).
يريد الناس، في كلّ جيل، أن يبرِّروا لضميرهم بطرق شتّى، دون الدخول إلى الأعماق وتغيير الذات. يريدون أن يظلّوا يعرجون على الجَنْبين، الله والعالم الفاني، الحياة الأبديّة والحياة الوقتيّة. تكمن تجربة البشر، دوماً، في أنّهم يريدون ربح الأرض والسماء، لا استناداً إلى تعاليم السماء، بل إلى مفهومهم الأرضي لها. لهذا تراهم لا يتحرّرون من متطلبات الأنا وتعظّم المعيشة، والمجد الباطل. يقضون حياتهم مترنّحين وباحثين عن خلاص ومعنى تارة هنا، وتارة وهناك.
ما قاله إرمياء، قديماً، في وصف شعبه، يصحّ في كلّ زمان ومكان. قال: “انذهلي أيّتها السموات وارتعدي، واعجبي من ذلك كلّ العجب! شعبي يرتكب شرّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة وحفروا لهم آباراً مشقّقة لا تمسك الماء”(أرم2\12-13). الأمناء المخلصون لا يستبدلون الله بشيء آخر على الإطلاق، مهما بلغت معاناتهم. ولايكرّمونه بشفاههم، بل بقلوبهم الملتصقة به. تراهم يغتسلون ويتطهّرون، ويزيلون شرور أعمالهم من أمام عينيه، ويكفّون عن الإساءة. يتعلّمون الإحسان، ويطلبون العدل،ويغيثون المظلوم، وينصفون اليتيم، ويحامون عن الأرملة. (أش1\16-17).
يمكنك أن تكون مؤمناً ملتزماً إلى أقصى الحدود، وحتى خادماً مكرّساً في الكنيسة، وتقع في التجربة إيّاها، فلا يكون قلبك مماثلاً لقلب إلهك. وبدلاً من أن تتمثّل أنت به، وترتفع إلى مستواه، تشوّه صورته، وتجعلها شبه صورتك الساقطة، مُنزلاً إيّاه إلى مستواك، إلى مستوى شهواتك الدنيئة، ورغباتك الخاصّة. هكذا تؤذي الله، وتجعله مكروهاً عند غيرك من أبنائه، وتُحدِر ذاتك إلى الجحيم. إن كنت تعتبر نفسك مؤمناً، فلا تتوهّم أنّ إيمانك هذا يعطيك كفالة تقيمك في حظوة، لا بل على العكس تماماً، إيمانك يحمّلك مسؤوليّة مضاعفة، وحسابك سيكون أعسر من الذين ما عرفوا الله، أو رفضوه بسببٍ ممّا رأوه منك ومن أمثالك، من آلهة ممسوخة لا تمتّ إلى الإله الحقيقي بصلة.
المتروبوليت سابا (إسبر)
18 كانون الثاني 2016