خلال زياراتنا لبلاد الإنتشار، حيث صارت لنا أبرشيات أرثوذكسية إنطاكية يتواجد فيها مئات من المؤمنين أو في بعضها الملايين من الذين غادروا الوطن حديثاً، أو ينحدرون من أصولٍ إنطاكية مشرقية. وكذلك في أبرشية العربية، دبي – الكويت – الإمارات – مسقط – البحرين وغيرها من البلاد، حيث قابلنا المؤمنين هناك في الكنائس وخارج الكنائس. ومن خلال تأملنا في هذه اللقاءات تأكدنا كيف أن الغربة قد قاربتهم من بعضهم البعض، وأقاموا علاقاتٍ جديدة، قامت هذه العلاقات بين أناس لا علاقة قربى ولا نسب ولا منطقة ولم يكونوا على معرفة ببعضهم البعض، وبالرغم من صعوبة العمل يجدون الوقت ليعيشوا فيه سويّة، وفي مجالس من الود والمحبة لا توصف. بينما وجدنا اخوة وأقرباء قد صاروا متعادين أو قد قطعوا كل علاقة لهم ببلداتهم وقراهم حتى ومع أهلهم، وكل ذلك لنفور نفسي أو تضارب مصالح، أو لعدم وجود شيء يجمعهم ويشدد من أواصر الروابط الواجبة غير قرابة الدم.
كثيرون من هؤلاء لا يعرفون الكنيسة في أرضهم الأصلية، ولا الحياة الروحية، ولا حياة الإيمان العمليّة مع أنهم بدون شك يؤمنون إيماناً عاماً قاطعاً بالله وبالسيد المسيح له المجد، وبرسالته وتفوّقها الحضاري والإنساني. ولكنهم وجدوا في الكنيسة مجالاً اجتماعياً هاماً يؤمِّن لهم لقاءات أسبوعية متكرِّرة، وأحياناً تصطنع اللقاءات لتشدَّ الرعية الى بعضها البعض فتترافق هذه اللقاءات مع إحتياجات المؤمنين الإجتماعية، وتنمو أواصر العلاقات بين الوافدين إليها حتى تشكل عندهم مجالات الإشتياق والمحبّة القويّة بينهم. فيقيمون العلاقات خارج هذه الإجتماعات، وصدق المثل القائل: “ربَّ أخٍ لك لم تلده أمَّك”.
وعِبْرَ التاريخ تأكد للجميع أن العلاقات متقلِّبة بحد ذاتها إذا لم تحتضنها نفوس ثابتة على الخير والفضيلة، والإقرار بالمعروف والإعتراف بخصائص الآخر وخصوصياته.
لم يتكلَّم ربنا يسوع المسيح عن أقرباء الجسد بل تحدّث عن قربى الروح والصدق في العلاقة. إذ لما كان يعلّم في الهيكل قال له الناس: “إن أمك وإخوتك ينادونك في الخارج، فتطلَّع نحو تلاميذه وقال هؤلاء هم أمي وإخوتي. إن أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها”. ولما رفعت إمرأة صوتها في بيت لعازر ومريم ومرتا، وقالت: “طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما، أجابها بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها”. وإذ كان على الصليب قال لأمه وهو ينظر الى تلميذه: “هوذا إبنك، وقال للتلميذ هوذا أمّك فأخذها التلميذ الى خاصته”.
كم نعرف نحن في بلداتنا وقرانا أناساً إخوة وأباءٍ وأمهاتٍ متعادين فيما بينهم، بينما هم ذاتهم يتصادقون بمحبة قوية وعلاقات متينة مع آخرين لا يمتون إليهم بأي نوعٍ من الحسب او النسب. فبحسب القديسين، وخاصة القديس غريغويوس اللاهوتي، والقديس باسيليوس الكبير وغيرهم، القربى الأثبت هي القربى الروحية التي يبنيها الإنسان على النعم المتشابهة المعطاة من الله لغيره أيضاً. فهذه لا تحتوي على إضطرارات كاذبة. فالقربى الروحية فيها الإحترام الكلي بين الروحيين بالنسبة لإحترام الوقت والخصائص. وفي النهاية القربى الغاية هي العلاقة والصداقة مع الله. فمن صادقه وصدقه وأقام معه علاقة صحيحة، وانفتح الله عليه بعلاقة طيبة لا يعود بحاجة لا لقربى روحية، ولا لقربى جسدية بل يصيح الله هو كل شيء بالنسبة لمثل هذا الإنسان. وهنا نفهم لماذا وضع ملايين حياتهم شهادة لله، وللإيمان، ومحبة بيسوع المسيح. إذ أن هذه المحبة ليست من طرف واحد، ويؤكد على واقعيتها وحقيقتها بولص الرسول في كلامه عن الإعلانات والكشوفات التي يهيئها الله لهكذا إنسان.
إذاً أيها الإخوة والأبناء الأحباء، لنقم علاقات مع بعضنا البعض إن كنا أقرباء أو أنسباء، أو كنا متصادقين لأسباب شتى على أساس الصدق والأمانة متحررين في كلِّ حين من هموم وارتباطات العالم، وغير مستعبدين لأي شيء فيه حتى يجدنا الحرُّ الكامل أحراراً خلصاء له ليقيم معنا العلاقة التي بها تسوّى جميع المشاكل، وتغيّب جميع الخصومات، ويصبح الجميع رعية واحدة، وعائلة واحدة لراعٍ واحد، وأب واحد هو سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي نرجو أن يتمجد في حياتكم وأعمالكم وعلاقاتكم.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، العدد 4، الأحد 25/1/2015