القدّيسة مريم المصرية آية من بيِّنات محبّة الله ودرّة من خزائن حكمته ورطَبٌ إلهي في براري الخطأة اليابسة. طالما هناك مصريةٌ مريمُ عند ربّها تقدّست فخلاصه منا ولا أدنى ولو تسربلت نفوسنا بالأوحال جملة ورتعت فيها طويلاً. “ليست خطيئة بلا مغفرة”، مع الإضافة، طبعاً، “إلاّ التي بلا توبة”. هذا ما قال به إسحق السوري القدّيس. مريم المصرية كانت زانية، عاشقةَ زنىً. غادرت ذويها في الثانية عشرة. ولعت بالزنى سبعة عشر عاماً. توّبتها والدة الإله في أورشليم، في عيد رفع الصليب المحيي. سلكت في نسك ولا أشدّ ثمانية وأربعين عاماً. بلغت قامة روحية سامية. رقدت بسلام في الرب في الأول من نيسان من السنة خمسمائة واثنتين وعشرين، فيما يُظن. التقاها وعرف خبرها شيخ روحاني اسمه زوسيما. كتبها القدّيس صفرونيوس الأورشليمي. وقد وُجدت سيرتها في القانون الكبير للقدّيس أندراوس الكريتي. أغلب الظنّ أنّ مريم، في كنف والديها، كانت مسيحيّة من العارفين. صلاتها إلى والدة الإله، لما تابت، تضمّنت وعياً لكون مريم السيّدةَ، والدةَ الإله، التي ولدت بالجسد الإله الكلمة. كانت تعرف أنّ والدة الإله دائمةُ البتولية وأنّ الإله الذي وُلد منها إنما تجسّد ليدعو الخطأة إلى التوبة وأنّه بذل دمه المقدّس لافتداء الخطأة. الكلام الذي تفوّهت به في صلاتها إلى والدة الإله، في صدمة التوبة التي عرضت لها في أورشليم، استبان نضراً وكأن الإلهيات في قرارة نفسها كانت حيّة ولو كامنة، غير مفعّلة، في سني ضلالها. على أنّ مريم في إقبالها على الفجور كانت مميَّزة. لم تنحُ ناحية الزنى عن حاجة. لم تبع جسدها. كانت تأكل من الحسنات أو من شغل يديها. وكانت تبذل جسدها عن رغبة. وبذلُها جسدَها أطلقت فيه العنان لرغبة نفسها بلا حدود. بدت كأنّها تقتحم العالم اقتحاماً، تحاول أن تستأسره بجسدها. شغفها بالفجور جعلها تتعاطى منه ضروباً وألواناً فوق المعتاد. كأنما بلغت من الزنى روحه ومن الفجور الذروة. رغم ذلك كأنّ بنعمة المعمودية كانت فيها ولمّا تغادرها، ولو بقيت خفيّة، في عتمة نفسها، على نحو لا يدري به غير الذي براها. وفي لحظة تابت! لما أصرّت أن تدخل إلى الكنيسة التي أُودع فيها عود الصليب، كما لتقتحمها، وصُدَّت، فطنت إلى السبب الذي حال دون السماح لها برؤية الصليب المحيي. في سردها لما حصل لها، في تلك اللحظة، قالت: “لمستْ كلمة الخلاص، برفق، عيني قلبي وكشفت لي أنّ حياتي الدنسة هي التي منعتني من الدخول”. أتتها النعمة برفق لم تعهده في حياتها، برفق صارخ بصمت جعلها تصحو وتعاين حقيقة ما هي فيه. هزّتها النعمة من الأعماق برويّة فانقشعت غشاوة الخطيئة عن عيني قلبها. كانت في دوار الخطيئة، وقديماً قيل “دوار الشهوة يطيش العقل السليم”، فاستفاقت. الخطيئة خدعة، عمى خارجي يحجب الرؤية عن القلب، نظّارة كذوب تجعلك ترى الوجود على غير ما هو. عاد إليها الحسّ الداخلي. إذ ذاك هالتها الحالة التي آلت إليها. فأخذت تبكي وتنتحب وتضرب صدرها وتتنهّد من أعماق قلبها. ولكن ما كانت مريم لتعود إلى نفسها من ذاتها. الربّ الإله افتقدها. الخلاص نعمة، إن اقتبلناها، ولمّا نعاندْ، خلُصنا بها. مريم استبانت مأخوذة بنزوة شيطانية جامحة. كانت مضلَّلة. في العمق كانت سكرى، غير واعية. الخطيئة تُسكر. والسُكْر يأسر. يخدع الإرادة ويوهنها. لذا كانت الحاجة إلى النعمة المخلِّصة المجدِّدة. ترأفوا بالخطأة. من أجلهم تجسّد ابن الله. عرف حالَ الضعف الشديد التي هم فيها. جاءهم مجيراً وهم الصارخون إليه أبداً: “فقير أنا وفي الشقاء منذ حداثتي”. “لا تصرف وجهك عن عبدك فإنّي حزين. انظر إلى نفسي وخلّصها”. “اللهم بادر إلى معونتي، يا ربّ أسرع إلى إغاثتي”. ليس الخاطئ مَن يستحقّ الإدانة بل الخطيئة. لذا أرسل الله “ابنه في شبه جسد الخطيئة ولأجل الخطيئة دان الخطيئة في الجسد” (رو 8: 3). مريم عشقت الخطيئة بكلّيتها، حتى الثمالة. كانت إناء كاملاً لإبليس. عبّت الخطيئة إلى ملئها. فلما ثابت إلى رشدها أضحت كلّية في توبتها، كاملة في استيعاب رحمة ربّها. عبّت رضى ربّها إلى الملء. أفرغت نفسها وعشقته إلى الذروة. كل خاطئ طاقة قداسة هائلة بنعمة المعمودية المبثوثة فيه. القدّيسون الكبار هم الخطأة الكبار متى استيقظوا. “استيقظ أيّها النائم ليضيء لك المسيح”! يا ليتنا أجمعين، وكلّنا خاطئ، نعي أنّه كلّما نأى أحدنا عن ربّه كلّما كان ربّه إليه أدنى. الحبّ يجعلك إلى الموجوع أدنى. لا يغادرك ربُّك البتّة. أنت تغادره كل يوم. أما هو فيعرف أن ينتظرك. يأتيك ولو من ثقب الإبرة. أنت لا تحتاج إلى أعمال صالحة كثيرة ليأتي ربّك إليك. تحتاج إلى صرخة، ولكن من الأعماق. والربّ الإله يسمع صوت الذين لا صوت لهم. “اذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك”. “اليوم تكون معي في الفردوس”. بالقليل وبالكثير يريدك ربّك أن تخلص. المهم ألا تيأس. المهم أن تصحو. الابن الشاطر عاد إلى أبيه بأسمال، برائحة الخنازير، فألبسه أبوه الحلّة الأولى وجعل خاتماً في إصبعه وذبح له العجل المسمّن. اليوم هو الأحد الأخير من الصوم الكبير، أحد القدّيسة مريم المصرية، لتبقى على الرجاء. لا تحتاج إلى الكثير لتدخل إلى فرح ربّك، لتكون لك بطاقة دعوة إلى قيامة السيّد. دمعة تكفيك! حسرة في القلب! تنهّد من الأعماق! المهم ألا تبقى خارجاً. دونك الأبواب مشرّعة وسيّدك في انتظارك! لن يبدأ الحفل من دونك. كلّهم في انتظارك! ألم تسمع ما قاله سيّدك “إنّه يكون في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة”! تعالَ يا أُخيَّ لأنّه لن تكون لي قيامة حقّ من دونك، قال السيّد!
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما عن “نقاط على الحروف”، العدد الثامن والأربعون، الأحد 13 نيسان 2008