قَبْلَ أن قال الرسول إلى المؤمنين في كنيسـة كولوسّي: “اطرحوا الكلّ”، كان قد عدّد لهم آفاتٍ يمكن اعتبارها، في نظر عموم البشر، من أكثر الخطايا فظاعةً في الأرض. وهذه: الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذي هو عبادة الأوثان. أمّا الكلّ التي يمكن أن يعتبرها معظم الناس من الخطايا العاديّة، فذكر منها ما يلي: غضبًا وسخطًا وخبثًا وشتمًا وكلامًا قبيحًا وكذبًا (٣: ٥- ٩).
أن يَعتبر بولسُ ما قد يُعتبر من الخطايا عاديًّا هو الكلّ، هذا، لعمري، أمر يجب أن نتسمّر عنده. فالناس اليوم، إذا سألت أيًّا منهم: برأيك، ما هي الخطيئة الشنيعة في الأرض؟، فمن المرجَّح كثيرًا أن يتفنّن في ذكره لك خطايا يعتبرها كبرى، ويترك ما قال بولس عنه إنّه الكلّ. لا، ليس ما دعانا الرسول إلى أن نطرحه عنّا هو، في رأي إنسان اليوم، خطايا حقيقيّة. إنّه أخطاء يمكن أن يرتكبها أيّ إنسان، أخطاء عامّة! هذا لا بدّ من أنّ الرسول يعرفه. ويجب أن نراه، بما قاله، يواجه المعتبَر عاديًّا. فالتراث، الذي ينقله، واضح في عدم تمييزه ما بين خطيئة وأخرى. كلّ خطيئة، في تراثنا، هي الكلّ. فالمسيحيّة، تراثيًّا، دعوة إلى الكمال. والخطيئة، أيّ خطيئة، تعطّل هذه الدعوة، وتجعلها فارغةً، أي من دون مضمون.
هذا يطرح سؤالاً وجيهًا، وهو: إلى مَنْ يستند الناس في سلوكهم؟ أي عندما يغضبون أو يشتمون مثلاً، مَنْ يتذكّرون، ويذكرون؟ إن أجبت: بعضهم بعضًا، أو أمورًا يشرّعون بها تصرّفاتهم السيّئة، لا أرتجل. فمعظم الناس أسرى الآخرين وما يرونه يغريهم في هذا العالم الحاضر الخدّاع! أين الله في ظلّ هذه المعمعة؟ هذا، إن كان هدفنا حياة البرّ، هو السؤال المحوريّ. فما يعوزه الناس، في غير جيل، أن يذكروا أنّ الحياة الحقّ أن نضع الربّ في صميم حياتنا. بمعنى أن نتمثّل به في كلّ شيء. وإن قال الكتاب في الله إلهنا مثلاً: “إنّه لم يرتكب خطيئةً، ولم يوجد في فمه غِشّ. شُتم ولم يَرُدَّ الشتيمة بمثلها. تألّم ولم يهدّد أحدًا، بل أسلم أمره إلى مَنْ يحكم بالعدل” (١بطرس ٢: ٢٢ و٢٣)، يعني أنّ شأننا الراهن أن نحذو حذوه.
ذلك بأنّ المسيحيّة أن نتبع الربّ. هذا هو جـوهـرها كلّه. كلّه كلّه. عندما كنّا شبابًا يافعين، جاء أحد الإخوة المعتبَرين، وقال لنا: كلّما مررتم بأوضاع حرجة، قولوا في أنفسكم: “لو كان الربّ مكاني، فماذا كان قد فعل، وتفعلونه هو عينه”. ولا أتفاصح إن ذكرت أنّ هذا أطيب قول مربٍّ سمعته في حياتي. بلى، القول تلقّاه بعضنا صدمة. فنحن، وقتئذٍ، لم نكن جميعنا على وعي أنّ المسيحيّة اقتداء بإله يريدنا أن نتشبّه به. وكان الإخوة سندًا لنا مقنعين. هل أقصد أنّ المسيحيّة هي اقتداء بالمعتبَرين في الجماعة أيضًا؟ أجل، أجل. فليس أحلى من أن تنخرط في قومٍ هم ما يقولونه من خير. القوّة، في الحياة المسيحيّة، توطّدها الزمالة الناصعة التي يسودها الربّ بحضوره المخلِّص. إن كان العالم قد تعلّق بالزيف ونـسج لـه الشيـطان مـا يـرتديه بـأنـاقـة!، فـيجب أن نـرتـبـط بعالم الحقّ الذي يساعدنا على أن نحيا بالبرّ أبدًا.
أمّا الكلّ الظاهرة في قول الرسول، فهي خطايا “أداتها الفم” (المطران جورج خضر)، هذه الخطايا الفمويّة (الشتم والكذب وما إليهما) خطرها أنّها توهم مَنْ يتلفّظونها بأنّها ألفاظ خارجيّة (أي لا علاقة لها بالقلب!). وهذا، الذي يشرّعه ظلم الشيوع، يزيد شيوعه من شيوعه! ألم يكثر بيننا، مثلاً، الذين يبرّرون الشتم بقولهم: كلّ الناس يشتمون؟ لا أريد أن أفرض على أحد قناعةً لا يراها تعنيه. لكنّ الحقّ يريدنا أن نعرف أنّ هذا التبرير يخفي أنّ الخطايا سلسلة. ويخفي الذي يحرّك هذه السلسلة كما لو أنّها سُبّحة، أي الشيطان الذي يرغب، بارتكابنا ما هو عاديّ، في أن نفتح له، ليدخلنا، ويتربّع فينا. فالشيطان، ليفتك، لا يعوزه سوى العاديّ! والمفارقة أنّ مَنْ يفصلون، إذا شتموا، ما بين أفواههم وقلوبهم، لا يعتقدون أنّهم يفصلون بينهما متى صلّوا مثلاً! كيف للقلب أن يصلّي دائمًا وللفم، وحده، أن يشتم؟ سؤال عويص لا يحبّ الأكثرون أن يتأمّلوا فيه! معظم الناس يستريحون إلى شائعٍ يريحهم. والله يريدنا أن نرتاح إلى كلمته التي خلقت أفواهنا، لتتعطّر بخيرها. هل أريد أنّ الفم الذي يستغرق بترداده الخطايا عبثًا لا يستطيع أن يمتهن الشهادة؟ سؤال أترك لقارئي أن يجيب عنه!
قال الرسول: “اطرحوا الكلّ”. ويجب أن نقرأ، في قوله، أن ليس للمسيحيّ شأن مع أيّ خطيئة، كبيرةً أو صغيـرةً (عاديـّة). فأن يطـرح أحـدنـا أمـرًا، لهـو أن يلقيـه بعيدًا منه. هذا أوّلاً. وأمّا تاليًا، فأن يقتدي بالبرّ، أي يطيع كلمة الله، ويعنيه انتشارها في الأرض. ليست المسيحيّة ألاّ أخطئ فحسب، بل أن أكره الخطيئة أيضًا، وأحاربها أينما ظهرت. أن
تطبّل الخطايا وتزمّر أمامنا، لا نكون شيئًا إن صفّقنا أو رقصنا لها. المسيحيّ شخص يحيا في عالم يريده أنقى. كلّنا نعرف أنّ هذا العالم مشكلته العظمى أنّ مسيحيّين كثيرين لا يريدون أن يخدموا طهر الله فيه. لا أقول: لا يمكنهم، بل لا يريدون! كثيرون منهم يحتاجون إلى أعجوبة تقنعهم بأنّ الله أرادهم خدّام امتداد برّه. هل تراني أضيف إلى قائمة الرسول خطيئةً عاديّةً أخرى؟ لا أعتقد أنّ ثمّة، في الكون، ما هو أشنع من أن نَعتبر أنّ أمر الله لا يخصّنا، بل سوانا؟ المسيحيّة، إمّا أن يكون كلّ مَنْ فيها جنديًّا صالحًا للمسيح يسوع، وإمّا هي تجمّع يمشي إلى قبره! أن نطرح الكلّ، لهو أن نطرح كلّ ما يبدي الله لا يخصّنا. هذا ما أراده الرسول، ليكون المسيح، هو هو، “الكلّ في الكلّ”.