“الرَّاهِب يبتعد عن كلّ شيء لكي يتَّحِدَ بالكلّ”. قولٌ لأَحَدِ آباء البرِّيَّة مفاده أنّ مَنْ يتْرُكُ كلّ شيء في الدُّنيا، فهذا يساعد صلته الحسنة مع الله والآخَرين، بما فيه الابتعاد عن شهوات العالم، وأيضًا شهوات نفسه الفاسِدَة. وإذا قضى الرَّاهب على رغباته السَّيِّئَة، يستطيع أن يتَّصل بالعالم حامِلًا إليهم نور المسيح في نفسه، وفي سلوكه وكلامه. هذه هي طريق الاستنارة، وإذا حَصَلَتْ يُشْرِكُ بها الآخرين. هذا ما حصل للقدِّيس سمعان العمودي الَّذي من العمود كان يتَّصل بكلّ النّاس لكي يعلِّمَهُم ويشفي مرضاهم. هذا ما حصل أيضًا للقدّيس أنطونيوس الكبير، الَّذي بعد نُسْكٍ طويل أصبح أبًا لأناسٍ كثيرين، رهبانًا وعلمانيّين.
إضافة لذلك، ساهم الرّهبان عبر التّاريخ في تنظيم العِبَادَات بما فيها الشِّعْر والموسيقى. منهم على سبيل المِثَال القدِّيس يوحنَّا الذَّهبِيّ الفم وباسيليوس الكبير، وغيرهم كالقدِّيس رومانوس المُرَنِّم ويوحنَّا الدِّمشقي. وأَسْهَمَ كثيرون في كتابة اللّاهوت العميق، على مثال القدِّيسِين يوحنَّا السُّلَّمِيّ واسحق السُّريانيّ ومكسيموس المُعْتَرِف. الرَّاهِب يشيرُ إلى العالم الآتي،
ويقول للنَّاس إنَّ هذا العالم لا يكفي. إنّه عبور إلى الحياة الحقيقيّة، توبة، عودة إلى الله. هذا يتمّ عن طريق معرفة الله معرفة حقيقيّة، ممّا يؤدِّي إلى معرفة الحياة الحقيقيَّة وتذوُّق الملكوت منذ اليوم.
نمط الحياة المتَّبَع غالِبًا، هو تبنِّي الفَقْر والبساطَة والتَّواضُع والطَّهارَة، ممَّا يتطلَّب جهادًا على الدَّوام.
هذا السَّعِي كلّه لا يمنعُهُم من مشاركة العالم المتألِّم في أحزانه وأفراحه. إنّهم يحاولون جهدهم لكي يعيشوا الإنجيل كاملًا بحرفيَّته. هذا لا شكّ يتطلَّب زُهْدًا بالمُقْتَنَيَات وإنكارًا حادًّا للذَّات. إن توفَّرَتْ هذه الصِّفات الحميدة في دير شركة رهبانيَّة، قائم غالِبًا في ناحية نائية بعيدة عن ضوضاء العالم، أصبح منارة يقصده الكثيرون من أجل الاستفادة الرُّوحيَّة من كلّ نوع. هكذا شركة رهبانيّة تشكِّل، بالفعل، مدرسةً تربويَّة لعيش الإنجيل في العالم. نحن بحاجة في كلّ آنٍ لمِثْلِ هذه الأديرة المُحَافِظَة على أمانتها للرَّبِّ والمُنْفَتِحَة على عالمٍ يعطشُ إلى مياه الحياة الأبديَّة في المسيح.
+ أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما
عن “الكرمة”، العدد 42، الأحد 20 تشرين الأوَّل 2013
الـــرَّهْبَنَـــــــــــــة