ولا في موضع، في حياة الرّبّ يسوع، تبع أحدٌ المعلّم، في الحقّ، من ذاته!. يسوع كان، أبدًا، الدّاعي!. هلمّ ورائي!. اتبعني!. لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم… هذا صحَّ في حياته على الأرض، وبالرّوح، بعد صعوده!. لذا الأصالة في اتّباع المعلّم مؤشّر لعمل النّعمة أو لا تكون!. الآتون من ذواتهم مُغرضون، لا محالة!. لذا لا يُقبَلون!. أتبعُكَ حيث تمضي، قال له أحدهم؛ فأجابه يسوع: للثّعالب أوجرة، ولطيور السّماء أوكارٌ، أمّا ابن البشر فليس له مكان يسند إليه رأسَه!.
جواب السّيِّد دلّ على قصد غير محمود لدى السّائل!. واقع المعلّم واقع فقر وتشرُّد!. بشريًّا، لا امتياز لديه يقدِّمه على أحد!. فقر إراديّ، في هذا الدّهر، وتشرُّد منذ المغارة والرّحيل إلى مصر حتّى الصّليب!. لذا مَن يبحث عن كسب لنفسه، ههنا، من جرّاء اتّباعه المعلّم، يخيب ظنّه لا محالة، لو عرف حقيقة السّيّد وشاء فعلاً أن يكون خادمًا له!. أمّا إن طلب أحد مجدًا باسم المعلّم، وسعى إلى كرامة من خدمته إيّاه، فإنّه يوجد مزوِّرًا للخدمة، مستغِلاً لها! هذا خادم كذوب!. يسود باسم الخدمة، ويغتني بادّعاء الفقر، ويطلب الكرامة حيث عبد يهوه مرذول!. كلام الرّسول بولس، في شأن ما يعرض لخادم مسيح الرّبّ، امتداد لما سبق للمعلّم أن أبداه وسلك فيه. هكذا خاطب أهل كورنثوس، في رسالته الأولى: “أنتم مكرَّمون وأمّا نحن فبلا كرامة. إلى هذه السّاعة نجوع ونعطش ونعرى ونُلكَم وليس لنا إقامة. نتعب عاملين بأيدينا… صرنا كأقذار العالم ووسخ كلّ شيء إلى الآن” (4: 10 – 13)!.
على هذا، ثمّة خدّام يَدْعون أنفسهم إلى الخدمة أو يدعوهم النّاس، وثمّة خدّام يدعوهم المسيح!. بكلام آخر، يكون روح الرّبّ، للأخيرين، هو الرّوح الّذي يتحرّك فيهم، ويدفعهم إلى المسيح وإلى كنيسته، وإلى اقتبال الخدمة، بوعيٍ لطبيعتها وفرح بها، ولسان حالهم، عن حقّ، قول الرّسول المصطفى: لست أشاء أن أعرف شيئًا بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا!. القول السّيِّديّ: اطلبوا من ربّ الحصاد أن يُرسل فعلة إلى كرمه، تأكيد أنّ مَن يصلحون للخدمة لا يأتون إلاّ من فوق!. هذا يفترض غيرة حقيقيّة عميقة على بيت الله، وإيمانًا أنّ ما هو من روح الله لا يصلح أن يُقام عليه إلاّ مَن هو من روح الله!.
دائمًا ما أَقِفُني أمام الأسلوب الّذي اتّبعه الرّسل، في اختيار الرّسول الثّاني عشر، البديل عن يهوذا الإسخريوطيّ!. باستقامة كاملة وغيرة كلِّيّة، أقاموا اثنين، خيرَ مَن يَصلح للرّسوليّة في أعينهم، وصلّوا قائلين: أيّها الرّبّ العارف قلوبَ الجميع، عيِّن أنت مِن هذين الاثنين أيًّا اخترته… مهما بلغ الإنسان من سلامة النّيّة فإنّه يعتبر نفسه قاصرًا عن القطع في الشّأن الإلهيّ!. بالعكس، سلامة النّيّة تعلِّم الاتّضاع وتزكّي الشّعور بعدم الاستحقاق!. رجل الله يقارب الإلهيّات بخوف ورعدة!. وحده علاّم القلوب يحكم!. غيّ أنا في الفكر واللّسان فأعنّي! ووحده علاّم القلوب يختار ويعيِّن!. لا فقط يُلهم!. يعيِّن!. هو الآخذ المبادرة!. الكنيسة تقتبل!. لهذا استعان الرّسل بالقرعة أسلوبًا يتلقّون به كلمة الله الفصل!. كان يمكن أن يكون الأسلوب مختلفًا! القرعة، بمعنى، كانت كلمة الله! فقط لأن ّالرّسل تصرّفوا بنقاوة القلب، اقتبل السّيّد اللّغة الّتي شاؤوه أن يكلِّمهم بها!. فألقوا القرعة فوقعت القرعة على متيّاس. وحدها نيّة القلب كانت الضّمانة أنّ حصيلة القرعة كانت التّعبير الحسّيّ الأكيد عن مشيئة الله، لا الصّدفة!. إذًا، لا القرعة، في ذاتها، ولا أيّ أسلوب آخر كان علامة الثّقة أنّ الله تكلّم، بل سلامة النّيّة! وحدها سلامة النّيّة دفعت الرّسل إلى حسبان متّياس، دون أيّ تشكيك بأنّ الأمر من الله، مع الأحد عشر رسولاً!.
لقد كان بإمكان الأحد عشر أن يكتفوا باختيار مَن يرونه مناسبًا دونما قرعة، سواء بالانتخاب أم باتِّفاق الأصوات، لكنّهم لم يفعلوا!. مَن كان أهلاً لمثل هذا الخيار، بين المؤمنين، أكثر من الرّسل؟! ومع ذلك، أو، بالأحرى، لأنهم كذلك، لم يعتبروا أنّ لهم حقّ القيام بمثل هذا العمل!. قد يتصوّر المرء أنّ لهم الأحقِّيّة في الخيار والتّعيين لأنّ المعلّم دخل عليهم، بعد قيامته، في العلّية، فنفخ فيهم وقال لهم: خذوا الرّوح القدس!. القرعة، أو ما يعادلها، والحال هذه، لا تعود لها أيّة قيمة! النّعمة الإلهيّة، لو صحّ مثل هذا التّصوّر، تتبنّى وتدعم، لأنّها تكون هي الّتي فعلت في الرّسل، وهذا يكفي!. غير أنّ تصرّف الرّسل لم يأتِ متّفقًا وهذا التّصوّر!. لا أهليّة الرّسل كانت كافية ولا خيار الله كان وقْفًا على أهليّة الرّسل!. الخيار حتّم أهليّة الرّسل واستقلال الله في تعيينه لاعتبارات تتخطّى تلك الأهليّة، في آن معًا!. لذا، استنتاجنا هو أنّ ما فعله الرّسل كان تأكيدًا وإرساءً لقاعدة اختيار خلفاء الرّسل وتعيينهم، أعني الأساقفة، في كنيسة المسيح، إلى جيل بعد جيل، حتّى لا يكون استئثار بما لله باسم الله وشرود!.
طبعًا، يُطرح السّؤال: ما طبيعة الرّابط الّذي يربط أهليّة الرّسل باستقلال الله، في عملية الخيار والتّعيين هذه؟. أهليّة الرّسل تؤكّد حاجتهم، ومن ثمّ حاجةَ خلفائهم، بصورة أساسيّة، إلى أمرَين: نقاوة القلب والآمين!. بتنقية القلب نمسي مهيّأين لمعاينة الله ومعرفة مقاصده!. ولكن، هذا لا يعني أنّنا، بالتّنقية، نحوز المعاينة والمعرفة بصورة آلية!. الله كائن وليس كتلة صمّاء!. الآليّة هي لما هو أصمّ! فيما الله حيّ!. لذا، ولو عرفنا أنّ في النّقاوة استدعاءً، فالله يأتينا، أبدًا، جديدًا، على غير ما يمكن أن نتوقّع، لأنّ اللهَ أكبرُ من قلوبنا!. طبعًا، لا نقاوة من غير عون الله، أما في الاستدعاء فثقة بحلول ما يفوق التّصوّر وما هو فذّ، مهما كان اطّلاعنا على أخبار المستنيرين غنيًّا! في العلاقة بالله فرادة أبدًا!. التّلقائية، كما في حادث المرأة النّازفة الدّم، الّتي توقّف، للتّو، نزْفُ دمها، إثر ما لمست هَدب ثوب يسوع، إنّما هي مؤشّر للحضور الكامل لله، واستجابته للّذين يحبّونه، تلك الاستجابة الّتي قد تأتي للتوّ، كما قد تأتي بعد حين، في أوانها، تمامًا، في كلّ حال، وكما يشاؤها الرّبّ الإله، للمنفعة، أن تكون!. أنّى يكن الأمر، فوراء كشف الله ذاتَه مقاصدُ أبعد من أفهامنا!.
هذا من جهة نقاوة القلب وما إليها. أمّا من جهة الآمين ففيها الثّقة بالله والتّسليم الكامل له، مطعَّمَين بسرّ الشّكر والدّهَشَ لتدبير الله، في كلّ حال!.
ماذا يحدث إن اكتفى الرّسل بموقعهم كرسل، وأخذوا الخيار والتّعيين بأيديهم، واعتبروا ختمَ الله على ما يرتأونه تحصيل حاصل؟. عمليًّا، يكونون قد ألغوا الإزائيّة الكيانيّة المتواترة في العلاقة بالله، وجعلوا المبادرة رهنَ أيديهم، ولمّا تَعُدْ المبادرة لله؛ واعتبروا تصوّرهم لسير الأمور كافيًا لاستيعاب روح الله، وأنّ ما يفعلونه منه حتمًا، ما يفضي إلى حالة داخليّة روحيّة إيهاميّة تكرِّس، بالأحرى، تبعيّة الله لهم، في المبدأ، وعمليًّا إلغاء الله، إلاّ اسمًا، بديلاً عن كونهم في الله وله ومنه وإليه! حتّى لو كانت سيرة الرّسل بلا شائبة، في الظّاهر، وكان إحساسهم الرّضى عن أنفسهم، فموقفهم يصير ملتويًا لأنّ فيه، في العمق، تغييبًا فعليًّا لله!. الله كائن وليس قوّة!. تجربة الإنسان الكبرى أن يشيّء الله ويحوِّله إلى فكرة!. والمحصّلة تكون، في العمق، الاكتفاء بالذّات، معيارًا مغلَّفًا بشعارات إلهيّة من دون الله!.
هذا يجعل موقف المقامين على الكنيسة، بعامّة، مفعمًا بتجارب ونزعات الصّراع والتّفلّت والانحلال!. المقام الرّسوليّ يصبح هو المحور الّذي يستمدد سلطته، في الوجدان، من فوق!. ما هو بشريّ يتّشح، في التّصوّر، بطابع إلهيّ لمجرّد تبوّء الواحد السّدّة الأسقفيّة!. التّركيز لا يعود على نقاوة القلب، والعبادة بالرّوح والحقّ (الآمين)، والخدمة، بل على تصدير الكلام، والطّقوس، والسّلطة!. المناخ الأسقفيّ، والحال هذه، يَفرغ، روحيًّا، من مضمون الحضرة الإلهيّة، والممارسة تتدهرن على حلّة كنسيّة خارجيّة!. هذا يمسي الميل، وهذه تصبح الحركة الكيانيّة في البيعة! وفي ذلك ضلال مبين!.
ظاهريًّا، قد تبدو الكنيسة مصادَرة من أهواء القيِّمين عليها، هذا أقلّه في الأوقات العجاف!. لكنّها، في الحقيقة، لا تبقى من دون قَدَاسات!. تدبير الله يصون الكنيسة!. والأهواء يسمح ربُّك بها للتّأديب والغربلة، ولا تكون ضدّ الله بل لأجل الله بطرق هو يعرفها!. في كلّ حال شهود الله باقون، ولكنْ، هؤلاء، بصورة متنامية، في تاريخ الكنيسة، يمسون قلّة وشهداء ويشتدّ الخناق عليهم، ما يشير، من جهة، إلى استشراء روح الانحلال والشّكليّة والارتداد، ومن جهة أخرى، إلى عمل الله الثّابت والحافظ للكنيسة عبر شهود لمسيح الرّبّ ولو قلّة رغم كلّ الضّغوط!. على هذا، تستمرّ الكنيسة بالقطيع الصّغير، في ضيقات وشدائد، إلى المنتهى، بنعمة الله، فيما رقعة زيت الارتداد تتّسع في الجمهور الكبير، اتّساعًا مأسويًّا!.
أنّى يكن الأمر، فالكنيسة العروس باقية، مهما اشتدّت التّجارب عليها، والنّعمة تزيد!. لكنّ الوجع الأكبر يصير أنّ الضّلال لا يعود مردّه أفكار غريبة تغزو أبناء الإيمان، بل أنّ الكنيسة المعيشة تتجوّف!. كلّ شيء يستمرّ كما هو، ولكن، بالأكثر، في الظّاهر، فقط!. فيما تمتلئ الأرض قبورًا مجصّصة، إلى أن يجيء الرّبّ يسوع في مجده!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 30 تشرين الثاني 2014