...

الحياة في الدهر الآتي

الكنيسة تحيا، في آن واحد، في الزمن الحاضر وفي الزمن الآتي. وفي اللغة اللاهوتيّة نقول إنّ الكنيسة تحيا “الآن وهنا” (أي في كلّ مكان وزمان) في الزمن الآتي، في الملكوت السماويّ. هي تحيا في يسوع المسيح وبه ومعه، لذلك تحيا في رجاء لا يتزعزع، الرجاء بالحياة الأبديّة في حضرة الآب والابن والروح القدس. ومن هذا الرجاء ينطلق القدّيس بولس الرسول ليقول: “فإنّي لواثق بأنّه لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رئاسات، لا حاضر ولا مستقبل ولا قوّات، لا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى أيّة كانت، تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا” (رومية ٨: ٣٧-٣٩).

وفي السياق ذاته يؤكّد القدّيس يوحنّا الإنجيليّ أنّ الحياة الأبديّة ليست سوى ظهور الحياة الموجودة منذ الآن في كلّ زمان ومكان. وهو نفسه أيضًا يؤكّد على لسان الربّ يسوع أنّ الإيمان هو الذي ينقلنا من الموت إلى الحياة، فالربّ يقول لمرتا أخت لعازر الذي أقامه من بين الأموات: “أنا القيامة والحياة. فمَن آمن بي وإن مات يحيا. ومَن كان حيًّا وآمن بي فلن يموت أبدًا” (يوحنّا ١١: ٢٥-٢٦). لذلك، يسعنا القول إنّ الحياة الأبديّة تبدأ منذ الآن في الزمن الحاضر وتستمرّ في الملكوت الآتي. ففي المسيح يكمن ملء الخلاص المتاح لكلّ إنسان يؤمن به: “وأمّا هذه فقد كُتبت لكي تؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياةٌ باسمه” (يوحنّا ٢٠: ٣١).

مع هذا التأكيد الشديد للخلاص الذي يناله المرء منذ الآن في هذا الزمان وهذا المكان، يؤكّد القدّيس يوحنّا الاكتمال الآتي، فالربّ يقول في خطابه الوداعيّ: “إنّ في بيت أبي منازل كثيرة… وإذا انطلقتُ وأعددتُ لكم المكان أرجع فآخذكم معي لتكونوا، أنتم أيضًا، حيث أكون” (يوحنّا ١٤: ١-٣). الحياة الأبديّة التي تبدأ منذ الآن في الإنسان لا تكتمل إلاّ بعد العبور بالموت، إذ ثمّة تناغم بين ما تمّ إلى الآن وما لم يتمّ بعد. وهنا يلاقي الرسول بولس الرسول يوحنّا حين يقول: “حاملين في الجسد كلّ حين إماتة الربّ يسوع، لكي تُظهَر حياة يسوع أيضًا في جسدنا. لأنّنا نحن الأحياء نُسلّم إلى دائمًا للموت من أجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت” (كورنثوس الثانية ٤، ١٠-١١).

الكنيسة هي الجماعة التي تشهد في التاريخ، بالقول والفعل، على الحقيقة بأنّ الملكوت السماويّ قد بدأ منذ الآن وسوف يكتمل في اليوم الأخير حين يأتي الربّ يسوع ليدين الأحياء والأموات. لذلك ينبغي للكنيسة، أي جماعة المؤمنين بالربّ، أن تؤدّي شهادتها المسيحيّة انطلاقًا من صليب الربّ وقيامته، وعبر عيشها لتعاليم الربّ، وعبر ممارستها للأسرار التي تجعلها مرتبطة بالربّ الحيّ في الكنيسة. لذلك ليست هذه الشهادة مجرّد نظريّة أو تصوّر أو رأي قد يصحّ أو لا يصحّ. هي حقيقة ساطعة يراها المؤمنون بعين الإيمان، ويتحرّكون بمقتضاها، ويحيونها في سلوكهم اليوميّ مع سائر البشر.

يؤكّد التراث الكنسيّ على أنّ الخلاص الأبديّ هو خلاص لا يقتصر على جزء من الإنسان، بل يشمله كلّه. فالوعد بالحياة الأبديّة قد أعطي للإنسان الذي ينبغي له أن يمارس مقتضيات الحياة المسيحيّة كي ينال الخلاص. وثمّة علاقة وطيدة ما بين قيامة الربّ وقيامتنا، فالرسول بولس يقول: “فإنْ كان يُكرز بالمسيح أنّه قام من بين الأموات، فكيف يقول قوم بينكم بعدم قيامة الأموات؟ فإنْ لم تكن قيامة الأموات، فالمسيح إذن لم يقم” (كورنثوس الأولى ١٥: ١٢-١٣). وبالسياق ذاته يذكّر الرسول بولس في الرسالة إلى أهل كولوسّي بكون المسيح القائم هو “البكر بين الأموات” (١: ١٨).

أمّا بالنسبة إلى كيفيّة القيامة، فالرسـول بـولس يـؤكـّد أنّـه لا يمكن تصوّر قيامة الإنسان، لإنّها تنقل الإنسان بشكل جوهريّ من أوضاع الزمـان الراهـن والحيـاة الأرضيـّة إلى وضع الكمـال الذي لا يمكن تخيـّلـه، الكمال الذي هو الشركة مع الله والاتّحاد به اتّحـادًا يقـودنـا إلى حيـاة لا تفـنى. مع ذلك يصف القدّيس بولس الإنسان الجسديّ القـائـم من المـوت بنعوت تُنسب إلى الحياة الإلهيّة: “فهكـذا قيـامـة الأمـوات، يُزرع الجسد بفسـاد ويقـوم بلا فسـاد؛ يُزرع بهـوان ويقـوم بمجد؛ يُزرع بضعف ويقـوم بقوّة؛ يُزرع جسـدًا حيوانيًّا ويقام جسدًا روحانيًّا” (كورنثوس الأولى ١٥: ٤٢-٤٤).

يضعنا الرسـول بولس في صورة الأحـداث الأخيرة حين يقول: “ومتى أُخضع له كـلّ شيء، فحينئذ يُخضع الابـن نفسه للذي أخضع لـه كـلّ شيء، ليكـون اللـه الكلّ في الكلّ” (كـورنثوس الأولى ١٥: ٢٨). المعنى الكامـن وراء هذه الآيـة هـو أنّ الـربّ يسـوع هو الذي يقود الناس إلى الله الذي هو الكلّ في الكلّ. ويصل الإنسان إلى هذه الحياة مع الله عبر اتّباعه

يسوع المسيح ونمـوّه بنعمتـه. لذلك نعـود إلى الكنيسة لنقـول إنّها جماعـة تحيا في هذا الزمان، غير أنّها جماعة أخرويّة تحيا في الزمان الآخر. فأن يكون الله الكلّ في الكلّ، هذا هو معنى الكنيسة. أن يكون الله الكلّ في الكلّ، عبارة لا تعني أنّ الإنسان سيفنى أو سيزول، بل يعني ذلك أنّ الله يعطي ذاته بطريقة كاملة، يعطي الإنسان أن يحيا به إلى الأبد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحياة في الدهر الآتي