إن تتكلَّمْ على “التّحرير” يَظُنَّ مَن يسمعك أنّك تطرح موضوعًا سياسيًّا. ممَّ تتحرّر؟ في عالم السّياسة، من القمع والتّسلّط والاستبداد! كيف؟ عادة، بالثّورة، بالمقاومة، بالقوّة، بالعنف، بالقتل… غاندي، الّذي حرَّر الهند بـ”اللاّعنف” حالة قلّما نألفها في العالم، على سموِّها. القاعدة الشّائعة أن ما أُخِذ بالقوّة لا يُنتزع إلاّ بالقوّة. السّيف بالسّيف!
مستحيل أن تجد نظامًا سياسيًّا لا يتعاطى، باسم “المثل العليا”، بعضًا من القهر والقمع! طبعًا، هذا يأتي تحت تسميات مشروعة: الحفاظ على دولة القانون، صون الأمن، سلامة المواطنين، حقوق الشّعب، مجتمع الحرّيّات الخ…
على هذا ليس نظامٌ سياسيّ مثاليًّا. “المدينة الفاضلة” تمنّيات لا واقع معيش. هناك دائمًا الرّأي والرّأي الآخر. ثمّ بين الشّعارات والإيديولوجيّات، من ناحية، والممارسة السّياسيّة، من ناحية أخرى، هوّة مستحيلٌ ردمُها. مهما كانت الضّوابط القانونيّة مرهَفة فإنّها أعجزُ من أن تضبط نزعات التّفلّت عند الإنسان. ليس أحد صالحًا بالسّليقة. في سِفر التّكوين “أن تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته” (8: 21).
بناء عليه، في السّياسة تتعاطى التّحرير كما في حلقة مفرغة: تسعى لأن تتحرَّر بالقوّة ممّن يتسلّط عليك بالقوّة. تفعل ذلك باسم العدالة والحرّيّة والمساواة. ومتى تسنّى لك أن تطيح المستبِدَّ بك، تهتمّ بقمع مَن يخالفك الرّأي والموقف، صونًا لما تحسبه عدالة وحرّيّة ومساواة. فيأتي مَن لا يطيق الانضواء تحت لوائك ويتّهمك بالاستبداد ويسعى إلى التّخلّص منك باسم العدالة والحرّيّة والمساواة، كما يراها هو. وهكذا تجدك، من حيث لا تدري، في موقع مَن حسبْتَه قهّارًا، فأطحته؛ كما تجد سواك ينادي بما سبق أن ناديت أنت به لما كنتَ مقهورًا، ويعمل على إطاحتك كمستبدّ. ثمّ يأتي مَن يطيح مَن أطاح بك تحت جنح الشّعارات عينها، أو تكاد، وهكذا دواليك. الوجوه، فقط، تتغيَّر، والحلقة، بعامّة، تبقى إيّاها!
هذا لأنّ التّحرير الحقّ ليس في تغيير الممارسات المدنيّة، بل في تغيير ما وراء هذه الممارسات، وأعني بذلك نزعات قلب الإنسان. قلب الإنسان، إذا تغيَّر، يُغيِّر الممارسة المدنيّة، فيما الممارسة المدنيّة، وما يحتفّ بها من ضوابط وقوانين، أعجز من أن تغيِّر قلب الإنسان. الممارسة المدنيّة تغيِّر السّلوك الخارجيّ للإنسان. وفي الحالات القصوى للقمع والعنف يصير الإنسان باطنيًّا. يصير ممثِّلاً بامتياز. يكرهك ويتظاهر بأنّه يحبّك. يبقى طمّاعًا جشعًا ولو أدّى ما عليه من ضريبة. الإنسان بحاجة لأن يتحرّر من نزواته، كلّ شيء، بعد ذلك، في ممارسته المدنيّة، يستقيم!
تغيير النّاس، ومن ثمّ أحوال النّاس، بالأنظمة السّياسيّة وهمٌ، لا بل خدعة تتعاطاها النّفوس التّائقة إلى السّلطة والعظمة والمجد. ولو أحدث تغيير النّظام بعض التّغيير في الممارسة المدنيّة، فإنّ النّاس باقون مطيّة لنزعات الحكّام والسّلاطين، وأسرى للصَورة الّتي يريدهم الحكّام والسّلاطين أن يكونوا عليها!
وحده الرّبّ يسوع جاء محرِّرًا حقّانيًّا للإنسان! مِمَّ جاء يحرِّره؟ من النّزعات الشّرّيرة في قلبه. هذه متى جسّدها الإنسان في موقف أو في سلوك أصبحت خطيئة. مثلاً في القلب هوى للطَّمَع، فإن تعاطى التّاجر التّجارة بأرباح فاحشة وقع في خطيئة الطّمع. طبعًا الخطايا كثيرة. الكذب خطيئة. الشّراهة خطيئة. إدانة النّاس خطيئة. الكره خطيئة. النّميمة خطيئة. الحقد خطيئة. تمنّي الشّرّ للنّاس خطيئة، الزّنى خطيئة… إذًا هناك خطايا كثيرة يرتكبها الإنسان. ولكن هناك خطيئة واحدة وراء كلّ الخطايا، هي بمثابة موقف يلتزمه الإنسان في داخل نفسه، أو، بالأحرى، يُولَد عليه، وفق ما ورد في المزمور الخمسين: “بالخطيئة ولدتني أمّي”، هذه الخطيئة، أمّ كلّ الخطايا، هي “محبّة الذّات”. “محبّة الذّات” هي الّتي تحرِّك النّزعات الشّرّيرة، أو الأهواء، في قلب الإنسان، وتفعِّلها وتحوِّلها إلى خطايا. و”محبّة الذّات” راسخة جدًّا في حياة الإنسان. هي أكثر من أنانيّة، وأبعد من عُجْب بالنّفس، وأعمق من موقف كبرياء. “محبّة الذّات” عشقٌ للذّات، تأليهٌ للذّات، عبادةٌ للذّات! إذًا يسوع جاء، بالذّات، ليحرِّر الإنسان من محبَّته لذاته. من هنا كلامه عن بغض الإنسان نفسَه وإهلاكِه إيّاها، كما في إنجيل يوحنّا (12: 25). والمقصود هو التّصدّي الكامل والكلّيّ لـ”محبّة الذّات”.
إلى الآن، سألنا: مِمَّ جاء الرّبّ يسوع محرِّرًا الإنسان؟ السّؤال التّالي: كيف؟ بالإيمان وحفظ الوصيّة. يسوع طبيب، لا كالأطبّاء الّذين نعرف. الأطباء يعالجون أمراض النّفس والجسد، أمّا يسوع فيعالج مرض كيان الإنسان، ما هو وراء كلّ الأمراض! إذا لم يكن في وسع طبيب المعدة، مثلاً، مهما كان بارعًا، أن يعالجَك ما لم تكن لك ثقة به، أي ما لم تكن مؤمنًا به، وما لم تطعه بالتّفاصيل وتتابع العلاج الّذي يعطيك إيّاه إلى النّهاية؛ فيسوع، لكي يعالج كيانك، يستدعي منك الإيمان والطّاعة الكاملة، ومتابعة العلاج، أي حفظ الوصيّة إلى المنتهى.
لماذا الإيمان بيسوع مهمّ؟ لأنّ الإيمان به يعزِّز فيك الرّغبة العميقة في الشّفاء وكذلك التّصميم. هذا، بكلام آخر، يبعث في نفسك إرادة التّغيير، إرادة الخير، إرادة الحياة. وبإرادة الخير تستطيع أن تقاوم إرادة الخطيئة الّتي هي القوّة المنفِّدة لخطيئة “حبّ الذّات” في تجسيد أهواء القلب في مواقف وسلوك، كما ينفِّذ الضّابط أمر المَلِك (حبّ الذّات) مستعمِلاً السّلاح (الأهواء) الّذي يجعله الملكُ في تصرّفه. عمليًّا، ثمّة حرب غير منظورة تجري في داخل الإنسان، هي حرب ضروس، لكنّها وحدها الحرب الّتي تستحقّ أن يخوضها الإنسان، لأنّها وحدها الحرب الّتي تحرِّر الإنسان من نزعات الشّرّ الّتي في قلبه، ومن ثمّ في العالم، وتمهِّد أمامه السّبيل نحو حياة جديدة وعالم جديد!
قلتُ، الحرب بين إرادة “حبّ الذّات” وإرادة “حفظ الوصيّة” الإلهيّة ضروس. بشريًّا، قوى الأهواء أشدّ عنفًا من أيّ قوى أخرى يمكن أن تنبع من ذواتنا، كإرادة الصّلاح. لذا، بشريًّا، ليس بإمكاننا أن ننجح في مسعانا أعلاه، لأنّ قوى الأهواء تَستأسِر قوى الطّبيعة البشريّة، الّتي خَلقنا الرّبّ الإله عليها، بما فيها من صلاح، وتقمعُها وتتغلغلُ فيها، بمثابة طبيعة ثانية بديلة فينا، وتستغلّها إلى أبعد الحدود، كما يستغلّ المستعمِر خيرات البلد لنفسه. لهذا السّبب متى عُرضتْ علينا وصايا الرّبّ يسوع قلنا، للوهلة الأولى، هذه لا نستطيع أن نطبِّقها، لا يمكننا أن نسلك فيها. نحن أضعف من أن نحفظها!
ماذا إذًا؟ أتظنّ أنّ الرّبّ يسوع لا يعرف ذلك؟ لا بل يعرفه جيِّدًا، وعليه لا يتوقّع منّا أن نكون قادرين، بقوانا الذّاتيّة، على حفظ وصاياه. ما يطلبه منّا هو أن نكون مؤمنين به، أن نريد الشّفاء من كلّ القلب، وهو يعطينا الغلبة. الغلبة من عنده لا مِنّا. نحن، من جهتنا، نشترك في الحرب ولو بقوى غير كافية للنّصرة، وهو يتكفّل، مباشرة، بالباقي. قوّته في ضعفنا تَكمُل. فقط علينا ألاّ نجبن وأن نلجأ إلى أمرَين: الأمر الأوّل تكتيكيّ والأمر الثّاني اتّصالي. في كِلا الأمرَين الرّبّ يعين. الأمر التّكتيكيّ هو ضرب مخازن الوقود الّتي لمعسكر أهواء القلب. مخازن الوقود هي مصادر القوى الطّبيعيّة فينا. ألم نقل إنّ الأهواء تغتذي من قوى طبيعتنا البشريّة؟ كيف نضرب مخازن الوقود هذه؟ بالنّسك، بالإمساك، بالصّوم! هذا يُضعف قوانا الجسديّة. فإن ثبتنا على النّسك بشكل مدروس، وفق إرشادات المختبَرين بيننا، الّذين هم الآباء الرّوحيّون الأحياء، والقدّيسون الّذين جاهدوا وتكمّلوا ورقدوا وتركوا لنا خارطة الطّريق لكي لا نضيع، فإنّنا لن نلبث أن نرى هجمة الأهواء فينا تتراجع وقواها تضعف. فإذا ما دعمنا ضرب مخازن وقود العدو فينا بالنّسك، إذا ما دعمنا هذه العمليّة، شبه العسكريّة، بتشغيل جهاز الاتّصال فينا بالرّبّ يسوع، أي بالصّلاة الدّائمة إليه، فإنّ قوى النّعمة الإلهيّة، إذ ذاك، تتنزَّل علينا من فوق لتبدِّد شمل أعدائنا وتنصرَنا وتحفظنا وتعزّينا!
هذه صورة لمعركة مقدّسة لا بدّ أن تتكرّر مرّات. العدو فينا لا يستسلم، لذلك علينا إبادته وفق القول المزموريّ: “أفسحتَ طرقي أمامي، فلم تتخاذلْ خطواتي. سأقتفي أعدائي فأُدركهم ولا أرجعنّ حتّى أُفنيهم… لأنّك حزّمتني بالقوّة من أجل القتال” (مز 17: 36 – 37؛ 39)!
كم نحتاج إلى وقت لنُشفى من عشقنا لذواتنا وعبادتنا لأنفسنا بالكامل؟ هذا يتوقّف على مدى تعاوننا مع الله من أجلنا. قد لا نحتاج لأكثر من بضعة أشهر، وقد نحتاج إلى سنوات، وقد لا ننجح إلاّ ونحن على فراش الموت، وقد لا ننجح بالمرّة!
ولكن متى نجحنا بتنا أحرارًا بالفعل، أي بات بإمكاننا أن نحبّ عن حقّ، والحبّ يجعلنا من معدن الله لأنّ الله محبّة. بالحبّ، إذ ذاك، نقوى على الموت وتصير لنا الحياة الأبديّة. يقيم فينا روح الله القدّوس. نتألّه بالنّعمة، ونصير من أبناء الملكوت. فمَن كان حيًّا على الأرض وقدّس نفسه، على النّحو الّذي وصفنا، فإنّه يَفيض، في العالم، تلقاءً، محبّةً حقّانيّة لا توصف، ويُعين المستعبَدين لِما كان هو مستعبَدًا له، في التّحرّر في الرّوح والحقّ. هذا ولو مات في الجسد فلن يرى الموت إلى الأبد، لأنّ السّيّد الرّبّ الإله قال: “إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد” (يو 8: 51)، وأيضًا: “أنا هو القيامة والحياة. مَن آمن بي ولو مات فسيحيا. وكلّ مَن كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يو 11: 25 – 26)!
إمّا أن يسلك العالم في هذا الطّريق الأوحد، والمسيحيّة طريق، أو يتقلَّب في الخطيئة ويموت في الخطيئة! كلّ كلام غير هذا ليس من الحقّ! فلا تصدِّقوا “الكذّاب” وأبَ الكذّاب!!!
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 13 تشرين الثاني 2011