الإنجيل ليس “للتلاوة” ولا “للمطالعة” بل لـ “الحياة”. ولا تقرأ الكنيسة لنا نصاً إنجيلياً إلاّ لهذه الغاية، وخاصة في الليتورجيّا. من يستمع لهذا النصّ الإنجيليّ اليوم يخرج متعثراً، على الأقلّ من ضرورة تلاوة كلّ هذه الأنساب.
رتبت الكنيسة في سبيل التهيئة لعيد الميلاد الأحدين اللذين يسبقان العيد، أي هذا الأحد والأحد السابق، فنقيم تذكار الأجداد أولاً ونقرأ إنجيل المدعوّين الذين رفضوا الحضور إلى العشاء وكيف جمع السيّد الناس من كلّ مكان لأن العشاء قد أُعدَّ إشارة إلى عيد التجسد الإلهيّ القريب. من ثم هذا الأحد، أحد النسبة، حيث نقرأ نسب المسيح البشريّ. من الملحوظ أيضاً أن شهر كانون الأوّل ملآن بأعياد الأنبياء والقدّيسين من العهد القديم.
عثرتنا من النصّ تعود إلى أسباب متعدّدة منها أولاً، أننا نقرأ هذا النصّ كمن يسـتمع أو يطالع تاريخاً ما قبل المسيح، ولا نستطيع أن نجد له أي معنى لحياتنا اليوم. وثانياً، وما يزيد الأمر تعقيداً، أن هذا التاريخ الذي قبل المسيح هو تاريخ مجهول لدينا وبالتالي طبيعيّ ألا يعنينا. أو في أحسن الأحوال ثالثاً، أننا نفهم هذا النصّ “كشجرة نسب” للمسيح الذي يولد بعد أيّام قليلة.
مع ذلك يبقى السؤال قائماً، هل هناك حاجة فعليّة لقراءة كلّ هذه الأسماء؟ والسؤال الأعمق هو ما هي غاية هذه القراءة عندما نعرف أنّ النصّ لا يسلسل كلّ الأسماء بتاريخيتها، بل يتخطى أسماءً ويتوقف فقط عند بعض الأسماء؟ وكأن متى الإنجيليّ، من التقليد آنذاك، سجّل هنا أهم الأشخاص الذين لعبوا دوراً هاماً في مسيرة الله إلينا، والأغربّ من كلّ ذلك أنّه بين أسماء كلّ هؤلاء الأبرار تندرج أسماء حملت في حياتها شتى ألوان الضعف البشريّ وأن هذه السحابة من الناس التي جاءت بالمسيح لم تكن من البرّ البشريّ، بل من ضعفه أيضاً.
هذه الأسئلة والملاحظات تجعلنا نشعر وندرك أوّلاً أنّ العزم الإلهيّ لا يقف عند الضعف البشريّ، أي بكلمة أخرى أن الحبّ الإلهيّ لا يقيس الأوهان. فالله يعرف جبلتنا وأننا تراب نحن، كما قال بولس الرسول: “ونحن بعد خطأة أحبنا”. فإذا كان الله يؤدبنا لنتطهر من خطايانا فإنه لا يرفضنا حين لا نغلبها. كلّ ما هو بشريّ يحمل خليطاً إلهيّاً إنسانيّاً، أي خليطاً بين الضعف والقوّة. لقد جاء الله إلينا ساعياً ومرّ قَدَرُ حضوره إلينا على أبرار كما على خطأة.
إن الحبّ الإلهيّ لا يوقفه الوهن البشريّ. ويقيس الله ما يمكن أن يحقّقه هو وليس ما يمكن أن نخطئه نحن.
والأمر الثاني الذي يتضح لنا هو أنّ خلاصنا لم يكن إنجازنا بل هبته. لم يأتِ المسيح من البرّ البشريّ بل بالأكثر من الحبّ الإلهيّ. تاريخ الشعب قديماً الذي انتظر وهيّأ لحضور المسيح لم يكن تاريخاً باراً بجملته بل تاريخ انتظار وهذا هو برّه. وفي الانتظار هنا أخطأ فلان وهناك كان الآخر باراً. فلا حقّ لنا أن نتباهى بل واجب علينا أن نشكر.
والأمر الثالث هو أن نتأمّل في عظمة الحبّ الإلهيّ الذي يغلب العالم ولكن دون كسر الحريّة البشريّة. لقد صرخ يسوع، كما يروي يوحنا الإنجيليّ، ثقوا لقد غلبت العالم. ولكنّها بداية الغلبة، إنّها بذرتها التي زرعت، لكن قدر الحبّ الإلهيّ الذي لا يغصب الحريّة البشريّة هو أن ينتظر آخِر الأزمنة وليس أن يفرض في اللحظة. الربّ سيد التاريخ. ولكنّه، إن جازت العبارة، أسيرٌ من هفواتنا. لذلك، حبّاً بنا، يحمل أوهاننا التي تؤجّل وتؤخّر على الله تحقيق إرادته بيننا. نعم إن ضعفاتنا تؤخّر فيض حبّ الله وغلبته ولكنّها لا تلغي ذلك. أَلم يذكر الكتاب أن كلّ شيء (حتى الشرير منه) يؤول (بحكمة الله) إلى خير المؤمن؟
لقد اختار الله أن يرضخ لحريّتنا، وهذه عظمة حبّه واحترامه لنا. لذلك يد الله ليست ضاربة بل مصلحة لا يلغي الله مواقفنا بل يحتملها ليصلحها حين نسمح نحن له بذلك. لهذا في التاريخ المقدّس هناك لحظات غير مقدّسة وشخصيّات كذلك. الله لم يأتِ إلينا فقط من أبرارنا بل أيضاً من أشرارنا. الحبّ الإلهيّ يظلّل الشعب في أنقيائه وأرديائه. هذا الحبّ لا يبرّر الخطأ ولكنّه يحتمله. الحبّ الإلهيّ لا يشجّع الخطيئة، على العكس، وإنّما يرجو أن يصلحها. المحبّة تتأنّى وترفق والمحبّة تترجّى.
لقد كان حبّ الله قويّاً لدرجة أنّ سعيه إلينا لم يتوقّف بسبب خطايانا. لقد صمّم الله أن يأتي إلينا، كما وعد حواء في الفردوس، أنّه من نسلها سيأتي من يسحق رأس الأفعى، وهو إذن آتٍ لا محالة ولكنّه لا يعصف بحريّتنا لتحقيق إرادته. تاريخنا المتبدّل الصفحات بألوانها البيضاء منها والسوداء يسير إلى اللاّ منتهى في الحبّ الإلهيّ.
نعم قد لا يستحقّ تاريخنا البشريّ مجيئه ولكنّه جاء لأنه أحبنا. قد لا يكون لنا الاستحقاق ولكن لنا الهبة أنّه يحبّنا. استحقاقنا لاستقباله لا يأتي من استحقاقنا بل من هبته.
في لغة الحبّ الإلهيّ استحقاقنا هو هبته، وضمانة العهد من تصميم الله وليس من إخلاصنا. إنّ حبّه يؤهّلنا، وتواضعه يجرحنا، وجرح حبّه يعيدنا، وعودتنا تحرّره لخلاصنا. لغة الحبّ الإلهيّ تعرف أن قيمة الإنسان بمقدار الحبّ الإلهيّ وليس بهزالة البرّ البشريّ. لولا هذه المعادلة الإلهيّة لما استحققنا يوماً حضوره. إنّ حبّه يجعل هبته تسحقنا خشوعاً وانسحاقنا يغدو استحقاقنا.
المسيح أتى من السماوات، رغم عدم استحقاقنا، فحبّه يدمينا وحضوره يرفعنا. المسيح على الأرض فارتفعوا. آميـن
المطران بولس (يازجي)
الأحد قبل الميلاد (النسبة)، 17 كانون الأوّل 2011.