وعت الكنيسة، منذ نشأتها، أهمّيّة الكتاب المقدّس كأحد مكوّنات التقليد. وأدركت ضرورة نقل نصوص العهد الجديد إلى لغات الشعوب كافّة. فهو الكتاب الذي يحمل الرقم القياسيّ في عدد اللغات التي تُرجم إليها. اللغة العربيّة لم تشكّل أيّ استثناء لذلك. فقد تـمّت ترجمة العهد الجديد مرّات عديدة منذ أوّل معتمدٍ عربيّ لغاية الآن. ورغم عدم علمنا بوجود نسخة عربيّة للعهد الجديد من فترة ما قبل الإسلام، إلّا أنّ هذا لا يعني، بشكل من الأشكال، أنّ مثل هذه الترجمة لم تحدث.
ساهم العديد من الدارسين في المناقشات، التي ما زالت تدور، حول زمن التعريب الأوّل للإنجيل. ففي نهاية القرن التاسع عشر، يلخّص «تريغليز» ما خلصت إليه دراسات زمانه، فيستبعد النصوص العربيّة من عمليّة النقد النصّيّ، ليس لأنّها «غير مترجمة عن اليونانيّة» كما كان يعتقد البعض، بل لأنّها، برأيه، ترجمات متأخّرة. ويشاركه في رأيه معاصرُهُ «بوركيت»، الذي يؤكّد أنّه لم تكن هناك حاجة ماسّة إلى تعريب الكتاب، قبل أن يحوّل الإسلام العربيّة إلى لغةٍ أدبيّة، وقبل أن يتعرّب لسان مسيحيّي العراق وسورية ومصر.
أمّا اليسوعيّ لويس شيخو (منشئ مجلّة المشرق)، فيدافع عن حدوث هذا التعريب قبل الإسلام بثلاثة براهين: -أوّلها، أن عددًا كبيرًا من القبائل العربيّة اعتنقت المسيحيّة في كلّ من العراق واليمن والحجاز. فمن غير المعقول أن يكون الكتاب المقدّس قد بقي بلا تعريب مدّة ٣٠٠ سنة؛ -ثانيها، أنّ الشعر والأدب الجاهليَّين يحويان العديد من الاستشهادات بالكتاب المقدّس؛ -ثالثهما، أنّ هناك العديد من الاستشهادات الكتابيّة في الأدب الإسلاميّ.
هذا ما يؤكّده أيضًا «بومستارك»، عبر ثلاث ملاحظات: -الأولى، الإشارات الليتورجيّة التي يلاحظها على نصوص بعض المخطوطات، والتي، برأيه، تعود إلى ما قبل القرن السادس. -الثانية، يرى «بومستارك» ضرورةَ أن تُرافق التبشيرَ في شبه الجزيرة العربيّة نصوصٌ كتابيّة وليتورجيّة، ولا بدَّ، برأيه، من أن يكون هناك نصٌّ عربيٌّ للأناجيل في منطقة الحيرة المسيحيّة بداءة القرن. -الملاحظة الثالثة، التي تبدو أكثر أهمّيّة، تأتي من الاستشهادات الإسلاميّة بنصوص الكتاب. فقد لاحظ «بومستارك» أنّ هذه الاستشهادات، التي استعملها المسلمون في القرنين الثامن والتاسع، تشهد لترجمةٍ عربية من أصلٍ سريانيّ قديم، وليس يونانيًّا، صار لا يُستعمل بعد القرن الثالث، وتاليًا فإنَّ تعريب الأناجيل تمّ قبل الإسلام بزمان طويل.
هذه البراهين سيرفضها، بعد مناقشات طويلة، كلّ من: -العّلامة «غراف» (لاهوتيّ مستشرق يعتبر من أهمّ دارسي المسيحيّة الشرقيّة، وهو أهمّ من كتب عن هذا الموضوع)؛ -و«فوبس» (مستشرق ولاهوتيّ إستونيّ الأصل، متخصّص في الدراسات السريانيّة) في كتابه «النسخ الأولى للعهد الجديد»؛ -و«غريفث» (كاهن ولاهوتيّ كاثوليكيّ أميركيّ معاصر، متخصّص في دراسة المسيحيّة العربيّة، والصوفيّة السريانيّة) في كتابه «الأناجيل بالعربيّة». وهنا تجدر الملاحظة أنّ هؤلاء الثلاثة لم يرفضوا فكرة وجود نصّ عربيّ للأناجيل قبل الإسلام، لكنّهم اعتقدوا أنّ مثل هذا النصّ لم يصل إلينا حتّى الآن، وأنّ كلّ هذه البراهين هي تصاريح عموميّة لا تصمد أمام النقد العلميّ.
وهذا، بالضبط، ما يقوله الدارسون اليوم، الذين يؤكّدون أنّ ثمّة ترجمة لبعض مقاطع العهد الجديد، إنْ لم يكن لكلّه، وذلك للاستعمالات الليتورجيّة. أمّا بعد الإسلام، فالترجمات العربيّة كثيرة ووافرة. وإذا كانت أوّلها ترجمة البطريرك اليعقوبيّ يوحنّا (٦٣١-٦٤٩) التي ساعده فيها بنو لخم المسيحيّون، وطلبها منه القائد العربيّ عمرو بن سعد بن أبي وقّاص، فليس آخرها الترجمة العربيّة المشتركة (١٩٩٣)، ولن تكون طبعة المثلّث الرحمة المطران قسطنطين بابا ستيفانو، العام ٢٠٠٤، لأنّ الناشر يقول إنّ هذه الطبعة تحوي الترجمة المستعملة في الإنجيل الطقسيّ لكنيسة الروم الأرثوذكس التي طُبعت في القدس العام ١٩٠٣، والتي دقَّق اللغة فيها وهبة الله صرّوف.
اليوم تزخر مكتبات العالم بالعديد من مخطوطات العهد الجديد باللغة العربيّة التي تشهد على تعدّد الترجمات العربيّة للعهد الجديد. يعود أقدم هذه المخطوطات إلى القرن التاسع (مخطوط الفاتيكان العربيّ ١٣، ومخطوطات دير القدّيسة كاترين في سيناء ٧٢، ٧٤، ٧٥). وتستمرّ هذه المخطوطات حتّى نهاية القرن التاسع عشر. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التعريب تمّ لأسباب عدّة، ربّما أقدمها الاستعمال الليتورجيّ. فاجتماعات الصلاة المسيحيّة تتمحور حول النصوص الكتابيّة، وتركّز عليها وتشرحها. ولا تخلو أيّ صلاة مسيحيّة من استشهاد كتابيّ حرفيّ أو ضمنيّ.