الأخلاق الأرثوذكسيّة (وهنا أميّز جذريًّا بين تعليم الأخلاق الأرثوذكسيّة وتعليم سائر الكنائس الأخرى، وهذا ليس من باب التعصّب بل بالحريّ من باب التمايز الجوهريّ بين هذه التعاليم)، تُحدّد عبر فهم الكنيسة للأنثروبولوجيا التي بالوقت عينه لا تنفصل عن مفهومها للعمل الخلاصيّ. هاتان النظرتان الأرثوذكسيّتان المتلاحمتان إحداهما بالأخرى تختلفان جوهريًّا عن نظرة الكنائس المسيحيّة الأخرى. إذ إنّ العمل الخلاصيّ الذي أتمّه الله من أجل خلاص الإنسان هدفه تأليه الإنسان بالنعمة. لهذا قال آباء الكنيسة بأنّ الله صار إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا.
وهذا المفهوم للعمل الخلاصيّ، الذي له نتائجه في الأخلاق الأرثوذكسيّة، مغاير عن المفاهيم الأخلاقيّة في سائر الكنائس الأخرى. فأخلاق المؤمن الأرثوذكسيّ هي أخلاق الإنسان المدعوّ إلى التألّه. ومتى أدرك المؤمن (والإدراك لا يعني الفهم العقليّ بل الوعي الكيانيّ العميق) هذا الموضوع تصبح أخلاقه أخلاقًا فوق العالميّة إذا جاز التعبير، أي تصبح أخلاقه مختلفة عن الأخلاق الاجتماعيّة المألوفة وتصير أطهر وأسمى. ولا تحكم هذه الأخلاق الربط الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو ما شابه، بل يحكمها الربّ المخلّص نفسه. وهي لا ترمي إلى إنشاء العلاقات من أجل منفعةٍ ما، بل تفهم التعاطي مع الآخر على أنّه صورة الله وخليقته ومطرح يتجلّي الله فيه. ومن استطاع تدريب نفسه على رؤية وحبّ المسيح الملتصق بالآخر، يصبح تعاطي هذا الإنسان مع الآخر تعاطيّا مقدّسًا وخدمته له خدمة مقدّسة.
من هنا نرى مدى ارتباط الأخلاق الأرثوذكسيّة بالعقيدة. أيضًا نرى كيف أنّ الإيمان في الكنيسة الأرثوذكسيّة لا يعني البتّة اعترافًا بالعقائد بل بالحري عيشها. وهذا الأمر سيتّضح لنا عبر تعرّفنا إلى معنى كلمة «أخلاق» وكيف تطوّر معناها عبر التاريخ.
تعريف «الأخلاق»: تشتقّ كلمة Ethics من الكلمة اليونانيّة «΄Ηθος» وهي تعني «عُرف» أو «عادة». ومع الوقت أصبحت تعني المكان الذي يوجد فيه الإنسان، أو أحيانًا البيت. ولقد شغلت مسألة «الأخلاق» الفلاسفة القدماء وحاولوا تفسير هذه الظاهرة حيث وجدوا أنّ التصرّف البشريّ يختلف بين إنسان وإنسان. واعتبر الفيلسوف الكبير أرسطو (٣٤٧ ق.م.) في كتابه «الأخلاق النيقوماخيّة» أنّ الأخلاق تنشأ عن العادة. وتكلّم أيضًا على طبع أخلاقيّ أو فضيلة أخلاقيّة. أمّا الفيلسوف هيراقليدس فقال إنّ الخلق هو الإله عند الإنسان/ أو بكلام آخر الأخلاق هي ما هو إلهيٌّ عند البشر.
أمّا في العهد الجديد فلا نقع على استعمال كلمة «خلق» أو «أخلاق» إلاّ مرّة واحدة، ونرى أنّ استخدام مصطلح «عادة» أو «عرف» يتكرّر أكثر. هكذا نجدها في: (لوقا ١: ٩) «بحسب عرف الكهنوت …» (عند زخريّا). بحسب «عادة العيد» (لوقا ٢: ١٢). ونصادفها كأعراف عادات اجتماعيّة وقوميّة كما في (لوقا ٢٢: ٣٩؛ يوحنّا ١٩: ٤؛ أعمال ٢٥: ١٦؛ عبرانيّين ١٠: ٢٥).
أمّا كلمة أخلاق فنجدها حرفيًّا عند القدّيس بولس – الذي يستشهد بدوره هنا بالمفكر مينانذرس – في ١كورنثوس ١٥: ٣٣ «فإنّ المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيّدة».
ولكن كيف فهم المسيحيّون الأوائل مسألة الأخلاق؟ قارئ المصادر المسيحيّة في القرون الأولى يرى أنّ الآباء والمعلّمين المسيحيّين شغلوا أنفسهم من إجل توضيح هذا الموضوع وإظهار الأخلاق المسيحيّة الجديدة التي أرستها تعاليم المخلّص. وأبرز المنادين بالأخلاق المسيحيّة كان معاصر الرسل القدّيس إكليمندس الرومانيّ (+٩٦). تكلّم هذا القدّيس على أخلاق المسيحيّين المتعلّقة بالطهارة والاستضافة.
والقدّيس إكليمندس الإسكندريّ (+٢١٥) قابل بين أخلاق اليونان واليهود وأخلاق المسيحيّين وطريقة عيشهم. واعتبر أنّ الله هو مبدأ الأخلاق.
مع العلامة أوريجنّس (+٢٣٥) نحن أمام طرح جديد وهو أنّ الأخلاق العالميّة مفيدة أيضًا للمسيحيّين ليبنوا عليها أخلاقهم الجديدة. وكأنّي به يقول إنّ ما هو صالح في المجتمع يُكمَّل في المسيحيّة. يشاطره هذا الرأي القدّيس الكبير غريغوريوس النيصصيّ (+٣٨٦) الذي يعتبر أنّه على المسيحيّين أن يتعلّموا الأخلاقيّات والآداب العالميّة والاطّلاع عليها ليستخدموا ما هو مفيد منها في وقت مناسب.
أمّا يوحنّا الذهبيّ الفم (+٤٠٧) فيربط العقائد بالأخلاقيّات، ويقول إنّ الإيمان بدون أعمال يلغي جوهر الفلسفة المسيحيّة أي أخلاقيّتها.
في الأدب النسكيّ والروحيّ، نقرأ عند الآباء عبارات مثل «الحياة بحسب الروح» أو «الحياة في المسيح» أو «الحياة بحسب الله»، وهم بذلك يعبّرون عن السلوك الجديد أو الأخلاقيّات التي على المؤمن أن يعتبرها نهجًا. ولم يكتب الآباء قطّ أنّ الأخلاق هي مسألة عقليّة بل نهج حياة أو تصرّف. لهذا نسمع اليوم الكثير عن تصرّف مسيحيّ، أي أنّ أعمال مؤمنٍ معيّن تعكس المسيح. فعليًّا الأخلاق المسيحيّة هي ترجمة العقائد أو الإيمان، وتاليًا هي وسيلة بشاريّة وبطريقة ما صامتة. أي أنت تبشّر بأعمالك.