...

ألَّلهمَّ، أعطِ حُكمَكَ للملِك

غالبًا ما يُشار إلى المزمور ٧١ على أنّه «مزمور مَسيّانيّ»، بمعنى أنّه يهتمّ بـ«ملك الله» المختار أو «الممسوح». مجرّد النظر عبر أبسط قراءة لهذا المزمور، وسيكون من الصعب أن تتجنّب الانطباع بأنّه وُضع للاستخدام في احتفالات التتويج الملكيّة، وهي منظومة طقوس انتقال السلطة للأسرة الحاكمة: «ألَّلهُمَّ، أعطِ حُكمكَ للملك، وعدلكَ لابن الملك». في الواقع، يُنسب العنوان المضاف إلى هذا المزمور، «لسليمان»، الخليفة الأوّل على عرش داود. بينما يتبادر إلى الذهن بسهولة، في ما يتعلق بموضوعات المزمور ٧١، قسمان سرديَّان يمكن تتبّعهما من الكتاب المقدس:

النصّ الأوَّل، من كتاب صموئيل الثاني الإصحاح ٧، ويحوي نبوءة ناثان العظيمة حول بيت داود الملكيّ، الذي صار بواسطتها المستفيد من عهد خاصّ لضمان استمراريّة نسله الذي سيملك إلى الأبد على مملكته. يعكس عدد من أبيات المزمور ٧١ هذا النصّ التاريخيّ، بخاصّة، تلك المتعلّقة بامتداد بيت داود الملكيّ وتوسّعه: «ويدوم ما دامت الشمس، ويَسبق القمـر بأجيال الأجيال».

النصّ الثاني ذو الصلة، من كتاب الملوك الأوّل الإصحاح ٣، ويصف صلاة سليمان من أجل نعمة «القلب الفهيم»، الذي سيمكّنه من حكم شعب الله بالعدل. مرارًا وتكرارًا طوال هذا المزمور يذكر «العدل» و«الحكمة» اللذين يميّزان مسيح الله الحقيقيّ.

نعلم كيف سوف يتبيّن، عبر التاريخ، أنّ كلّ وجه من وجهي المزمور ٧١ والنصّين القصصيّين اللذين يعكسانهما، كيف أنّهما يشكّلان أكثر من مجرّد مشكلة طفيفة (بل مفارقة على العكس) في تاريخ إسرائيل اللاحق. على سبيل المثال، تباهى سليمان، كحاكم، بالحكمة، تلك التي كان يصلّي من أجلها في «جِبْعَةَ»، لكنّها لم تدم حتّى نهاية حياته هو، وظهرت بين أجياله التالية بتردّد خجول وغير مبال إلى حدّ ما. بالمثل أيضًا، ما الذي يمكن قوله عن ديمومة مُلكيّة بيت داود على شعب الله؟ انشقَّ أكثر من نصف تلك المملكة بعد وقت قصير من وفاة سليمان أوّل خليفة لداود، ولم يحكم أيّ ملك داوديّ مرّة أخرى على عرشه، بعد سقوط القدس في العام ٥٨٦ قبل الميلاد. ما يمكن، إذًا، أن يقال عن نبوءة ناثان أو عن صلاة سليمان؟ كيف تُفهم «الوعود» الواردة في هذا المزمور؟

نؤمن نحن كمسيحيّين، بالطبع، بأنّ المضمون الداخليّ لكلّ هذه الدلالات يجد تحقيقه في يسوع- الربّ- هدف التاريخ التوراتيّ والموضوع المحدِّد لكلّ النبوءة في الكتاب المقدّس. فقد أعلن رئيس الملائكة جبرائيل تحقيق هذه النبوءات القديمة عندما أخبر والدة المسيّا أنّ «الربّ الإله يعطيه كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية» (لوقا ١: ٣٢-٣٣). بينما أعلنت الملائكة الأخرى للرعاة «ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الربّ» (٢: ١١). كان عليه أن يكون، من جهة، من نسل داود ومن جهة أخرى ربّ داود (مرقس ١٢: ٣٥-٣٧).

أمَّا سليمان، فهل كان هو الملك الـ«حكيم»؟ حسنًا، بالتأكيد، ولكن الآن، لدينا هنا من هو أعظم من سليمان. إذا كانت رغبة سليمان هي حكم شعب الله بحكمة وببرّ (الكلمة التي تأتي مرارًا وتكرارًا في مزمورنا)، فماذا نقول عن الشخص الذي يسمّيه العهد الجديد حكمتنا وبرّنا (١كورنثوس ١: ٢٤، ٣٠)؟

الاستخدام الطقسيّ للمزمور خلال أيّام العيد في زمن الميلاد يوحي بأبعاد أخرى من تحقيق نبوءته، ولا سيّما مملكة المسيح العامّة المنتظرة. على سبيل المثال، فلننظر في هذه الآيات: «أمامه يجثو أهل الحبشة (عادةً ما يعني أيّ إفريقيّ إلى الجنوب من مصر) أعداؤه يلحسون التُّراب. ملوك ترشيش (في إسبانيا) والجزائر (كورسيكا، سردينيا، صقلية، كريت، قبرص، رودس…) يحملون إليه الهدايا، ملوك العرب وسَبَأ يقرّبون له العطايا. ويسجد له جميع ملوك الأرض، وتتعبّد له جميع الأمم». يجب أن تضع مثل هذه الآيات في الحسبان، (أي الملوك الحكماء الذين جثوا أمام المسيح الطفل)، بخاصّة في ضوء الآية التالية من المزمور: «ويعيش ويُعطى له من ذهب العرب» (متى ٢: ٩-١١).

بغضّ النظر عن مدى نجاح حكمه، لم يحقّق أيّ ملك آخر في التاريخ الآمال والنبوءات المطروحة في المزمور ٧١. المملكة الموصوفة هنا هي، في الحقيقة، ليست مملكة من هذا العالم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ألَّلهمَّ، أعطِ حُكمَكَ للملِك