ليس من مشكلة تستوقف الإنسان كقضيّة الشرّ، المادّيّ منه والأدبيّ. فأمام مشهد الخطيئة والألم، يتساءل المرء: لماذا كان هذا وما معناه؟ ويتمنّى لو أنّ قدرة الله أعتقته من كلّ معضلة، وضبطته في الخير إلى الأبد، لو سيّرته آلةً لا حرّيّة لها. وكأنّ الإنسان يحسد الحيوان الأعجم والحجر الأصمّ. والحقّ أنّ الإنسان، عندما يملّ المسؤوليّة، يريد لنفسه وضعًا متقهقر الإنسانيّة، ساقطًا إلى المرتبة البيولوجيّة أو إلى ما أدنى منه. الإنسان، وحده، دون الكائنات الحيّة، قادر على أن يكره الألم، لأنّه يستطيع أن يعقله. إنّه لا يرتضي الحيوانيّة ذاتها وضعًا له، وعنده دون الحيوان رغبةٌ في تدمير نفسه.
في ساعات الفرح والانتصار على الذات، يقدر الإنسان على مكانته في مملكة الحياة، ويعرف أنّ الجسم الذي أعطي إنّما هو ركيزة للروح المتطلّعة إلى آفاق لا تُحدّ. ويدرك، في هذه الأوقات، أنّ حرّيّته إنّما هي نعمةٌ كبيرة. ويصبح الألم ذاته مصدرًا لتفتّق الخلق وفوهةَ تدفّق للنور. أجل، لا الفلسفة تعطي جوابًا مقنعًا عن أصل الشرّ ولا الدين يبحث في ذلك. كلّ ما يقوله إنّ الشرّ الحقيقيّ الأوحد هو شرّ الإثم وإنّ الخطيئة يمكن اقتحامها. الإيمان، في قصة الخليقة، لا يجيب عن سؤالنا كيف كان الشرّ ولماذا تسلّل إلينا. لكنّه يؤكّد أنّنا صرنا في الشرّ وأنّ الخطيئة أمست فعّالة قتّالة وأنّ الله وحده، إن سالت قواه فينا نعمةً وحبًّا، قادر على أن ينقذنا من شقائها وموتها. الإيمان يعلّمنا لماذا يجب وكيف يجب أن نخرج من الخطيئة.
الإنسان يعرف أنّ الله ينعطف عليه إذا بلغ الألم عنده كلّ مبلغ، وأنّه يفتقده في صميم المأساة، وكأنّ الله يتمزّق فيه، ويئنّ. هذا الإنسان، إذا صرخ من الأعماق وتاق إلى ربّه كما تتوق الأرض الظمأى إلى الندى، تتنزّل فيه الرحمة، ويتقبّل الله عنه كلّ صدمة، وينبلج من قلبه الصبح.
الفداء ممكن في كل نفسّ إذا صبرت لا صبرَ الاستسلام إلى قدر غاشم، بل صبر المحبّين الذين يرون في الألم التفاتة من ربّهم، ويتبنّون الحرّيّة مرقاةً إلى الخلاص.
Raiati Archives