في السنة ٥٢٠ ق.م. أطلق النبيّ حجّي (ومعنى اسمه فرحي أو عيدي، وضمير المتكلّم يعود إلى الله) رسالته، وتوجّه بها إلى زرُبابلَ (حاكم منطقة اليهوديّة)، وإلى يهوشعَ (عظيم الكهنة) وإلى الشعب الساكن في أورَشليمَ. وبقي يكلّمهم مدّة أربعة أشهر (من اليوم الأوّل من الشهر السادس حتّى اليوم الرابع والعشرين من الشهر التاسع). أمّا موضوع رسالته فكان إعادة بناء هيكل أورَشليمَ. وقد وصلت إلينا نبوءة حجّي في كتاب مكوّن من فصلين، ولصغر حجم الكتاب فإنّه يوضع في العهد القديم عاشرًا ضمن كتب الأنبياء الصغار الاثني عشر. وهو الأوّل من ثلاثة أنبياء تكلّموا مع الشعب بعد السبي، ويرافقه في ذلك النبيّان زكريّا وملاخي.
فلقد دمّر الملك البابليّ نبوخذنصّر هيكل سليمان وكلّ أورَشليمَ في السنة ٥٨٦ ق.م. كما أسر سكّانها، من الأمراء إلى موظّفي القصر والحرفيّين وكلّ من بقي فيها حيًّا، ونقلهم إلى بابل عاصمته. وصارت هذه الحادثة تعرف باسم «السبي البابليّ». وبعد خمسين سنة (٥٣٦ ق.م.) سقطت بابل ذاتها بيد الملك قورش الفارسيّ. فكان من أوّل أعماله أن أعاد الشعوب الذين سباهم البابليّون إلى بلادهم ومدنهم. ومن جملة هؤلاء أعاد العبرانيّين سكّان أورَشليمّ.
وهكذا عاد النبيّ حجّي، المولود في بابل، إلى أورَشليمَ العام ٥٣٦ ق.م. مع أوّل دفعة من العائدين. كان في مقدّمة العائدين زربابل حفيد آخر ملوك أورَشليمَ ووريثه الشرعيّ، فعيّنه الفرس واليًا على اليهوديّة. وتسلّم من الملك قورش الأواني المقدّسة التي أخذها معهم البابليّون عند السبي من هيكل سليمان. وسمح الفرس للعائدين ببناء الهيكل والمنازل وأسوار المدينة. وبعد وضع أساسات الهيكل الجديد وإنشاء المذبح، توقّف العمل على بناء الهيكل لأسباب كثيرة. منها رفض ومقاومة الشعوب المجاورة، التي رأت في مشروع بناء الهيكل مشروعًا لبناء دولة جديدة تنافسهم على موارد المنطقة. وكان أشدّ هؤلاء المنافسين اليهود سكّان السامرة.
لكنّ المشكلة الكبرى التي واجهت بناء الهيكل كانت داخليّة. بعض العائدين، ممّن يتذكّرون هيكل سليمان وخرابه، اعتبروا أنّ هذا الهيكل صغير وحقير ولا يليق بالله. البعض الآخر رأى في توقّف العمل إشارة إلهيّة لهم بعدم رضى الله عن إعادة البناء. آخرون لم يكونوا مهتمّين سوى ببناء بيوتهم، وتزيينها. وهكذا أمام الأزمات المتلاحقة توقّف العمل مدّة خمس عشرة سنة. الأمر الذي شجّع على روح الفرديّة، وقضى على روح الجماعة. فما عاد أحد من العائدين، وعددهم بين الأربعين والخمسين ألفًا، مهتمَّا بأمور الجماعة. فلا الهيكل بُنِي، ولا أسوار المدينة أُصلحت. وهكذا واجه الوالي، زربابل، الفشل في مهمّته وفي إعادة بناء الهيكل والمملكة. وصار العائدون معرّضين للسرقة والنهب، وكثرت الخلافات في ما بينهم.
فجاءت كلمة الله إلى النبيّ حجّي، فقام هذا يشدّد الشعب ويجمعهم إلى سماع كلمة الله وتنفيذ وصاياه. فلا شيء يمكنه أن يجمع الناس سوى كلمة الله. فالله الذي أمر الحاكم وعظيم الكهنة والشعب بالعمل معًا لبناء الهيكل الجديد، طلب منهم أوّلًا التوبة، فهذا ما تعنيه آية الربّ «اجعلوا قلبكم على طرقكم» (١: ٥). فالتوبة هي باب كلّ صلاح. وقبل البدء ببناء بيت الله علينا أن نجعل قلوبنا هياكل مكرّسة للربّ. عندها نستطيع أن نلمس بركة الربّ في كلّ ما نعمله، سواء في بيت الربّ أو في بيوتنا. لذلك دعوة حجّي النبيّ ما تزال قائمة اليوم، فقبل كلّ عمل لا بدّ أوّلًا من توبة صادقة، وثانيًا يجب العمل بحسب وصايا الربّ. فليراجع كلّ منّا أعماله وأفكاره. وليترك ما لا يتوافق مع إيمانه. وليبدأ بالعمل فورًا بما يرضي الله: محبّة الآخرين، والاهتمام بالفقراء، مؤاساة الضعفاء.
لاقت كلمة الله في ذلك الوقت قبولًا لدى سامعيها. فتوجّه الجميع: الحاكم مع مساعديه، رئيس الكهنة والكهنة، جميع فئات الشعب إلى العمل مع بعضهم البعض. وحّدتهم دعوة الربّ بلسان حجّي النبيّ، فاستطاعوا أن يتركوا اختلافاتهم وخلافاتهم، بسبب توبتهم وعودتهم إلى الله. لكنّ التجارب لم تتوقّف هنا. هذه المرّة ضخامة العمل جعلتهم يفكّرون وييأسون من أكماله. آخرون لم يعجبهم تواضع العمل. فالمخطّط الذي وضع لبناء الهيكل الثاني كان أبسط من بناء الهيكل الأوّل وأقلّ فخامة. ينقصه الخشب والفضّة والذهب، والضخامة التي تمتّع بها هيكل سليمان.
فجاءت كلمة الله، مرّة أخرى على لسان النبيّ حجّي، هذه المرّة تشدّد على أهمّيّة الثقة بالله. ففي وسط المصاعب ورغم حجم العمل الذي ينتظرنا ورغم صعوبة تحقيقه (بناء هيكل الله، مواجهة الأزمة الاقتصاديّة، بناء دولة المؤسّسات، محاربة الفساد…) ينقل النبيّ كلمة الربّ لنا في كلّ زمان: «أعملوا فإنّي معكم يقول ربّ الجنود» (٢: ٤). فمادام عملكم نابعًا من قلب تائب، ومن أيادٍ مؤمنة فالربّ هو العامل فيكم. وتعبكم لن يذهب بدون نتيجة. ومهما كانت مساهمتكم صغيرة فإنّ الله نفسه سيجمع ما تقومون به ويباركه ويكثره. المؤمن لا يعرف اليأس. (مرقس ١٢: ٤٢، لوقا ٢١: ١)، فالعطاء والمشاركة أهمّ من الكمّيّة. الربّ هو من يبارك أعمالنا عندما يراها تصدر عن قلوب تائبة، وعقول مستنيرة بالروح القدس تعمل لخير كلّ من هم حولنا.