القديس اسحق السرياني
إن محبة الله حارة بطبيعتها، وعندما تحل في القلب الإنساني حلولاَ تستولي عليه، وتدفع الروح إلى جو من التأمل العميق، يستحيل معه على القلب الشاعر بها أن يدركها ويستكنهها، ومن نتائج هذه المحبة انقلابات نفسية عميقة تظهر آثارها الحسنة واضحة، وتكون بالنسبة إلى ما في ذلك القلب من أشكال هذه المحبة ونوعيتها، ولها دلائل حسية تظهر في الوجه إذ يصبح الوجه نارياً والجسد حاراً، وينهزم الخوف والجبن عن القلب ويغرق الإنسان في غيبوبة تأملية، أما القوة التي تربط تلافيف العقل فتفكك ويصبح الإنسان كالمجنون, يفرحه الموت المخيف, بعد أن ترك الأمور الدنيوية ويزداد تبحره بالأمور السماوية عمقاً واتساعاً، فيتكلم عن الماضي كأنه يتكلم عن الحاضر، أما المعرفة الحسية فتموت مع الأشياء الدنيوية ليحيا التأمل الصوفي, يموت الحس ليحيا شيء أسمى، شيء مجرد من كل المادية، ليحيا عقل نيـّر بالإيمان، وإذ ذاك يتخطى عالم الحس إلى عالم بعيد, ويتكلم بألف لسان مع أرواح ذلك العالم الذي لا يعرف الحس إليه سبيلاً.
لقد انتشى بمثل هذه النشوة الرسل والشهداء, وأولئك الذين جابوا العالم وعملوا بالأتعاب والمشقات، وسفكت دماؤهم غزيرة وقطعت أوصالهم وتاهوا في مجاهل الأرض، ولاذوا بمغاورها وثقوبها محتملين هزء الهازئين وتعييرات المعيرين، فسماهم الناس جهلاء لحكمتهم وفوضويين لمحبتهم للنظام، فأهلنا اللهـمّ لحماقة مثل حماقتهم!
وقبل أن تدخل يا هذا إلى مدينة التواضع، فلا تصدقن ذاتك أنك ارتحت من انزعاجات النفس واضطراباتها، العدو لك بالمرصاد يتربص بك ليوقعك في شركه، واعلم أنك ستلاقي انزعاجات كثيرة واضطرابات مخيفة، ولن تتحرر قط من كل هذا إلا باجتيازك آخر حدود الفضيلة، ولن تنال العنف من أحابيل الشرير، إلا بعد تربعك في حرم التواضع المقدس، فلتكن النعمة الإلهية معنا فنستأهل مدينة التواضع.
كلما احتقر الإنسان هذا العالم وعمل في الدنيا بمخافة الله, كلما اقتربت منه العناية الإلهية، وكلما صار مفهومها السري شعوراً سرياً وصفت أفكاره لإدراكها، فإذا حرم الإنسان خيرات الدنيا بإرادته ازدادت رحمة الله وتبعته، وكان نصيبه من هذه الرحمة بمقدار انفصاله عن الدنيا, ويتكرم بهذه الرحمة الذين من عن يمين ومن عن يسار مخلصنا الذي يهيئ لنا سبلاً إلى الحياة الحقيقية، أما الذين يقهرون نفوسهم بإرادتهم فيربحون حياتهم بأحزانهم بدون إرادتهم ويرفعون نفوسهم نحو الفضيلة، فأليعازر ذلك الفقير, لم يحرم بإرادته من خيرات الدنيا فحسب بل كان جسده أيضاً مصاباً بالقروح, وقد حلت به مصيبتان أليمتان، وكل مصيبة كانت أسوأ من الأخرى، إلا أنه في النتيجة حظي بأحضان إبراهيم، فالله هو قريب من القلوب المتألمة الصارخة إليه في أحزانها، فإذا حرم من الأشياء الجسدية أو تألم حتى أدرك ألمه, فلنعلم أن الله يفعل ذلك ليجعلنا ندرك معنى الألم, كالطبيب الذي يعمد إلى مبضعه عندما يكون هناك مرض عضال لينقي الجراثيم حفظاُ على الصحة.
وهكذا يحسن الله إلى النفس بالأحزان والآلام التي يسلطها عليها، فإذا كانت رغبة الشوق إلى المسيح لا تتغلب فيك فتجعلك غير مبال بكل أحزانك بالنظر إلى الفرح الذي تلقاه فيه, فاعلم أن العالم يعيش فيك وليس المسيح، وإذا كان المرض والفاقة وإضناء الجسد، والخوف من الأمور الضارة به يزعج عقلك ويصرفك عن أفراحك بالمسيح وآمالك به، فاعلم أن الجسد يعيش فيك وليس المسيح، وبعبارة أسهل أقول إن الشوق الذي يتغلب فيك ذاك الذي يستعبدك، ذاك الذي يعيش فيك، وإذا كانت جميع حاجاتك في متناول يدك وجسدك قوياً ولا تخشى شيئاً من الأمور المعادية، وتقول بضرورة السير وراء المسيح، فاعلم أنك مريض العقل وأنك بعيد عن مذاق لذة مجد الله، وأقول هكذا لا لأنك بالفعل مريض العقل، بل لتعرف كم أنت مقصر عن الكمال وعن مصف الآباء القديسين وجمهرتهم من الذين سبقونا، ولا تقل أنه لم يوجد رجل استطاع أن يرتفع بعقله من ضعفه الجسدي تماماً، عندما يكون الجسد تائهاً في محيط التجارب والأحزان، وأن الشوق إلى المسيح ما استطاع أن يتغلب على أحزان العقل.
أعرني سمعك لأتقل إلى ذاكرتك الشهداء القديسين مع عجزي عن الوقوف أمام عمق آلامهم العظيمة, وكم غلبت ناحية الصبر فيهم, الصبر الناتج عن قوة محبة المسيح، وكم غلبت الأحزان الكثيرة وأشواق الجسد، فبذكراهم فقط تتألم الطبيعة البشرية وتنزعج بالمعنى الواسع، وإنما نسوق ذكرهم للنظر إليهم والإعجاب بهم.
وإليك قصة رويت عن أحد الفلاسفة ذوي الإلحاد، وهي أنه قرر أن يلزم الصمت مدة طويلة، فلما سمع الملك بذلك تعجب واندهش وأراد أن يمتحنه فأمر بإحضاره، ولما رآه صامتاً لا يجيب، ثار ثأره وأمر بقتله لأنه احتقر تاجه ومجده، أما الفيلسوف فلم يجزع بل حافظ على رباطة جأشه واستمر على صمته، وأمر الملك الجلادين بأن يذيقوه صنوف العذابات وبأن يقتلوه إذا هو عاد عن عزمه، وبأن يعيدوه إليه سالماً إذا هو استمر على صمته، فلما وصل الجلادون إلى مكان النطع، حاولوا بشتى العذابات أن يجعلوا الفيلسوف يتكلم فلم يفلحوا، لأنه كان يقول في فكره: ليس أفضل من الموت في هذه الساعة، والمحافظة على إرادتي أقدس من كل شيء، فلكم جاهدت وعملت وذقت من العذاب, أفيليق لي أن أُغلب في هذه اللحظة بفكرة الخوف من الموت، فأُحقر حكمتي وأُهين عقيدتي لأربح شيئاً تافهاً؟ فتقدم إلى الموت بكل هدوء ليتشرف بحد السيف، فنقل الجلادون خبره إلى الملك فأطلق سراحه خازياً، وكثيرون هم الذين استطاعوا أن يدوسوا الشهوات الطبيعية، والذين تحملوا الجلد والهزء وصبروا على الأوجاع والأمراض وأظهروا صبرهم في الويلات والمصائب، فإذا كان هؤلاء قد عملوا كل ذلك في سبيل مجد باطل، واحتملوا كل هذه الأمور بصبر وثبات، أفلا يجد بنا نحن الرهبان المدعوين إلى الشركة الإلهية أن نفعل ذلك، ونحن الذين أهلنا لإقتبال هذه الشركة بشفاعة والدة الإله القديسة الدائمة البتولية مريم، وأولئك الذين جاهدوا فأعجبوا المسيح، الذي له المجد والشرف والسجود مع أبيه الذي لا بـدء له المساوي له في الجوهر والروح المحيي الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.
ترجمة المطران الياس (معوّض)
عن “مجلة النور”، العدد 1 و 2، 1951