نقرأ في الإصحاح الرابع من رسالة القديس بولس الثانية إلى الكورنثيين كلمات ذات معنى عميق أود أن أشرحها: “وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا” (16:4).
مَن هو الإنسان الخارجي؟ إنّه المعروف من الناس، المركّب من لحم ودم وجهاز عصبي وعظام. إنه الشخص الذي يدرك الطبيعة المادية الخارجية بالحواس الخمس، النظر والسمع والشمّ والذوق واللمس. حياته الروحية محدودة بملاحظة الخليقة المادية من خلال الحواس وتحليل هذا الإدراك بالعقل والقلب. بالكاد يتخطى اهتمامه بالأمور الروحية اهتمامه بالأمور الأرضية.
لكن منذ الأزمنة القديمة، كان ولا يزال هناك مفكرون قادرون فهموا أن حياة النفس والروح لا تُحدَد ببساطةٍ بمخلوقات العالم المادي. لقد استوعبوا أن لدى البشر القدرة على إدراك وجود عالم روحي. الفيلسوف الإغريقي بلوتينوس قارن بين حياة النفس والروح المزدوجة وحياة الحيوانات البرمائية القادرة على الحياة على الأرض وفي الماء. على المنوال عينه، النفس البشرية لا تعيش بالأفكار البشرية وإدراكات الحواس الخمس وحسب، بل لديها حاسة سادسة غير قابلة للفهم ومجهولة لدينا وهي الوسيلة لتلقي نصائح الروح القدس السرية والوعي لملاكه الحارس. بهذه الحاسة يمكننا أن نقيم علاقة عميقة وحيّة مع الله والملائكة ووالدة الإله والقديسين من خلال صلواتنا.
الأحاسيس الداخلية التي لا يمكن تفسيرها، التوقعات، التنبؤات والأحلام النبوية كلها تعود إلى هذه الطريقة الروحية في التعاطي مع العالم. على الجميع أن يقرؤوا سفر إستير في الكتاب المقدس، فهو يبدأ برواية مذهلة عن حلم مردخاي النبوي المتعلّق بجهاده ضد هامان. لاحقاً صار الحلم حقيقة بكل تفاصيله الصغيرة.
وجد مارتن لوثر مرةً في إحدى المكتبات مقالة لاهوتية قديمة قرأ فيها فكرة كان لها تأثير كبير عليه. قال الكاتب أن للنفس البشرية عينان: الأولى وجهتها حياة الناس اليومية، فيما للأخرى القدرة على رؤية الحياة في العالم الآخر، التي هي بالجوهر مصيرها. لكن هاتين العينين لا تعملان إلا منفصلتين إحداهما عن الأخرى، فتصير الحياة الروحية منظورة فقط عندما تغمض العين التي تنظر إلى العالم المادي.
طريقة أخرى للنظر إلى هذا الأمر هو أن النجوم تلمع في السماء خلال النهار كما في الليل، لكننا لا نراها لأن نور الشمس يخفيها. تبدأ النجوم بالظهور فقط عند غروب الشمس وحلول الليل. بالطريقة عينها، فقط عندما تتلاشى ضوضاء الاهتمامات الدنيوية تبدأ النفس بسماع الأصوات الخفيفة الناعمة الآتية من العالم العلوي.
إذاً، إن شخصنا الداخلي هو روحنا الموجَّهة إلى فوق إلى السماوات وهي حرّة من الاهتمامات والرغبات الدنيوية. إن حياة الناس الروحيين مختلفة جذرياً عن الناس الدنيويين في أن الدنيويين بقدر ما يتقدّمون بالعمر يذوون ويشيخون. تبدأ أجسادهم بعملية الانحلال في الأربعين أو ربّما قبل: توهن العضلات، يجدون صعوبة في المشي، يزداد النظر والسمع ضعفاً، وتبدأ الذاكرة بالتلاشي والأسنان بالوقوع.
من جهة أخرى، يتجدد الإنسان الداخلي طوال حياتنا الواعية، طالما أن الروح لم تجرفها وُحول حياتنا على الأرض، وهي تتذكر كلمات القديس بولس: “ارفعوا قلوبكم”. إذا كانت تلك العين التي لدينا لا ترى سوى الأشياء التي هنا على الأرض فهي تزداد ضعفاً وفي النهاية تتعطّل بشكل كامل. عندها العين الأخرى، التي مهمتها التبصّر بالعالم الروحي، تزداد رؤيتها وضوحاً. فبهذه الطريقة، يتجدد إنساننا الداخلي يوماً فيوماً ويزداد قرباً من الله.
إلى هنا، عندما كنت أشير إلى تأثير العالم الآخر على الإنسان الداخلي، كنتُ أتكلّم فقط عن أعمال الروح القدس والقوى المنيرة العلوية. لكن من الأمور الفائقة الأهمية أن نتذكّر أن قوى الجحيم المظلمة، الشيطان وملائكته، تمارس علينا أيضاً صنوفاً أخرى من القوى غير المنظورة. فبكلّ ما لديهم من قوة يحاولون أن يعيقوا عملية تجدد إنساننا الداخلي ليمنعوه من سلوك طريقه إلى الله.
أرجو، أيها الإخوة والأخوات، أن تعرفوا كلمات الرسول بولس في عمقها: “وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا” (16:4). أتوقّع أنكم قادرون على الاستنتاج والفهم مما قلته لكم أن هدف حياتنا هو تجديد نفوسنا بصبر عظيم على هذا الطريق البائس الشائك الذي يقود إلى ملكوت السماوات. كما أنها معركة لا كلل فيها ضد الشيطان وملائكته الأشرار، الذين يحاولون خداعنا وإزاحتنا عن هذا الطريق الخلاصي.
معونة الثالوث القدوس الإلهية تقوينا على هذا الطريق الصعب. آمين.
القديس لوقا الطبيب رئيس اساقفة سيمفيروبولوس والقرم
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
التراث الأرثوذكسي